محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

الأربعاء، فبراير 22، 2012

دلالات متعددة لـ "ثقافة الموبايل"


  دلالات متعددة لـ "ثقافة الموبايل" من خلال رسائل الكترونية شائعة

مقال نشر في صحيفة الحياة اللندنية
 بتاريخ 24/11/2001

لم يكن من السهل التغاضي عن مجموعة النكات والرسائل الالكترونية التي يمطرني بها الأصدقاء والزملاء في العمل والتي تصلهم من خلال أجهزة الهاتف المحمول، ولقد عملت على تجميعها وتصنيفها محاولاً الوصول إلى أهدافها ودلالاتها انطلاقاً من مبدأ يقول: لا يوجد شيء من دون علّة.


لا بد من التوقف للحظات، كي ندرك أو نحاول اختراق علة هذه الملاحظات وسبب وجودها. وهذا سيقودنا إلى منطقة خطرة، منطقة يتأزم فيها الفكر العربي وتختلط فيها الحرية بالفوضى والعبث.

واللافت أن معظم تلك الرسائل يندرج ضمن الممنوعات الخارجية المتمثلة بالقيود المفروضة على الناس من السلطات السياسية والدينية والاجتماعية. فإحدى الملاحظات السياسية المرسلة تقول "واحد صعيدي بيفجر نفسه بين اسرائيليين، سوى بروفة بين أهله قبلها بيوم"، وأخرى تقول "ترقبوا قريباً على قناة السودان الفضائية برنامج "وزنك رطب". ودلالة الرسالتين السابقتين تنم عن كره الإسرائيليين وسذاجة أساليب التعامل معهم، والتندر والسخرية من الفقر في إحدى الدول العربية، مع الإشارة إلى كثرة وانتشار برامج المسابقات التي تمنح الفائزين أموالاً جمة من دون عمل أو جهد حقيقيين، فتحطم قيم العمل وتبني قيماً جديدة تعتمد الحظ والمعلومات العامة.

ولما كانت الحرية تُمارس بمقاومة الممنوع، يبدو واضحاً أن الحديث العلني في المواضيع محل الرسائل غير مستحب، وقد يجلب لصاحبه المتاعب. لذا تمارس شريحة من المجتمع حريتها من خلال ابتكار النكات والتعليقات ذات الدلالة، محطمة بذلك آليات التفكير، خارجة من علاقات السيطرة، متحررة من سلطة الأفكار ذاتها، لدرجة أنها تستخدم ألفاظاً نابية يرفض المجتمع سماعها. ولهذا ليست السخرية والنقد في هذه الرسائل مجرد ابداء وجهات نظر، وإنما محاولة لبناء لغة جديدة للتفكير والتعبير في شكل مختلف، أي أن المرسل يفكر في ما – ويعبّر عما – كان يستعصي عليه التفكير به أو التعبير عنه. فتجد رسائل ذات مضمون اجتماعي. "عريس شغال بوس وبس، العروس زهقت قالت: ما بدك حاجة... من تحت قال: بدي باكيت دخان". "واحد راح يخطب قالوا له المهر 200 ألف ريال، قال: ليش، حصلت عروس بـ 20 ألف وحامل".


ثمة ثقافة إنسانية تشمل البشر جميعاً، وثقافة محلية تميّز مدينة عن أخرى، ويخلق ازدهار الرسائل الالكترونية أنماطاً ثقافية جديدة، تتجاوز المحلية لنسمها "ثقافة الموبايل". وفي حين أن الأنماط الثقافية المختلفة يثري كل منها الآخر، فإن "ثقافة الموبايل" تؤثر سلباً على المتلقي، وتجعله مسطحاً. فالثقافة الواعية، من علم وفن وأدب، هي إضافة إلى التراث الثقافي الإنساني. أما الثقافة غير الواعية أو المغمورة، والتي تظهر في صورة رسائل الكترونية، فهي ستلعب دورها في التأثر والتأثير مع المعطيات الثقافية الأخرى. إلا أننا نخشى من انفلاتها وتأثيرها السلبي لعدم وجود ضوابط تحكمها.

 وبالطبع فإن هذا النقد غير مقبول اجتماعياً ولا يستساغ سماعه، لكنه في النهاية لا يحدث من فراغ، لأنه ليس مجرد قول بين المرء وذاته، وإنما هو موجه إلى الآخر، وخوض في المسكوت عنه، للكشف عن معنى وحقيقة موجودة في المجتمع لا تستطيع أن تعبر عن نفسها.

ما الهدف من هذه الرسائل التي تبدو كهذيان شخص إلى ذاته؟ إنها تحذرنا من الاستخفاف بما تحمل من مضامين، فبعضها عميق الدلالة، في حين أن البعض الآخر شديد السطحية، وكلاهما يحمل، ولو في شكل مبهم، معنى موجوداً، والموجود هو أصل العلّة. وهنا يتجاوز نقد الأفكار والسلوكيات الملاحظات السابقة، إلى الطريقة التي يجري بها طرحها وتداولها والترويج لها. فنجد أن استخدام التكنولوجيا الحديثة يطير بتلك الرسائل من خلال شبكة المعلومات الدولية "الانترنت" والهاتف المحمول إلى أرجاء المعمورة. إلا أن ما يعنينا في هذا المقام هو سوء استخدام تلك التكنولوجيا، ويبدو ذلك واضحاً، كما هي الحال بالنسبة للرسائل الإلكترونية عبر الهاتف المحمول، والأمر ذاته مع خدمة "تشاتنغ" Chatting عبر الشبكة الدولية للمعلومات "انترنت". وهنا قد يجوز لنا القول إن هذه السلبية تحمل في رحمها إيجابية أكبر وهي تسريع التحول الديموقراطي وازدياد هامش الحرية.


قد تحمل المقولات أحياناً مفاهيم جديدة، كما قد تكون أحادية الجانب وفي أحيان أخرى، تقوم على التبسيط والاختزال، إلا أنها في النهاية تحمل في داخلها المفاهيم السائدة، ذلك أن مفاهيم الناس وما في أذهانهم تحددها وضعيتهم الثقافية. فالعادات الاجتماعية مهما وصلت من الرسوخ، فهي لا تكون أبداً عبثية بإرادة مسبقة، وبمحاولة القفز على الأسوار الموضوعة من قبلنا على ذواتنا، أو تجاوز القيود الموضوعة علينا من المجتمع. وفي ذلك يتساوى الأصولي والعلماني، لأننا في هذه الجزئية نتجاوز الأفكار، إلى طريقة التعامل معها، حيث يجري التعبير عنها في شكل صريح للغاية وإلى حد الوقاحة في بعض الأحيان.

وفي السياق الاجتماعي أيضاً، وفي نقد لاذع للإسراف في تناول الخمور، تقول إحدى الرسائل: "واحد سكران طينة رزق بنت، سألوه شو بتسميها، قال: مريم على اسم عمتي فاطمة". "واحد بيصلي، سمع اثنين يمدحان خشوعه في صلاته، فقطع صلاته والتفت إليهما وقال: وكمان أنا صايم". مريض راح للمستشفى قالوا له الزايدة انفجرت، قال: سوّاها بن لادن".

وإن كانت الكتابات الجادة فقدت جاذبيتها للقراءة، وهذا ما تشهد به تلك المقولات والوقائع على الأرض، فيندر حالياً أن تستغل خدمة ترك الملاحظات على الهاتف لتسجيل رسالة مستعجلة أو معلومة يود المتصل إيصالها إلى صاحب الهاتف. وبالإجمال فإن سوء استخدام التكنولوجيا وعدم ترشيد استعمالها في ما خصصت له، هو إحدى سمات العولمة، ويؤشر إلى مدى الخواء الفكري.

محمود يوسف خضر

مقال نشر في صحيفة الحياة اللندنية بتاريخ 24/11/2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق