في تاريخ الحب وأصله
يبدو الحديث عن تاريخ الحب مرادفا لسبر أغوار الوهم، فكلما اقتربت من الفكرة لملامستها تبتعد عنك إلى دهاليز منظمة لا تتبين الطرق فيها، وكما تعودنا، فإننا نجد أنفسنا أمام التفسير الأسطوري لأصل الأشياء التي لا تفصح عن تاريخها، ونجتهد في تفسير وجودها، وتذهب الميثولوجيا الإغريقية إلى أنه
في ليلة الاحتفال بعيد ميلاد آلهة الجمال "فينوس" أقيمت وليمة عامرة تليق بهذه المناسبة العظيمة، وكان "بوروس" وهو روح الربح، بين الضيوف والتحقت بالوليمة في نهاية الاحتفال "بنيا" وهي روح العوز، وكانت تستجدي الحضور، وعندما لمحت "بوروس" نائماً، اضطجعت إلى جانبه ولاطفته، فحملت منه وولدت "الحب" وهكذا المحبوب دائما جميل، لمجيئه في عيد ميلاد فينوس، بارع في ترتيب الحيل والمكائد لبلوغ مآربه، لأنه ابن الربح "بوروس"، كما أنه دائما يعيش محتاجاً ولا يشبع لأنه ابن العوز "بنيا" فطبيعة الحب وخصائصه وما يجمعه من متناقضات تعود إلى نشأته.فالحب ليس إلا وهما يعتقد بوجود اثنان فيقتنعان به كرباط مقدس يؤلف ما بين روحيهما ويترجم إلى الاتصال الجسدي، وإن ظل كل منهما مقتنعاً بذلك الوهم المشترك، فستمضي حياتهما تظللها السعادة، وإن شك أحدهما في وجوده، فإنه ينزل به من السماء إلى الأرض، من الخيال إلى الواقع، الذي يسحق الجميع تحت عجلاته. ومن هنا تختلف المعايير وتتباين، ففي حالة الحب الصادق يكون المعيار والمحك هو مدى الاقتناع بوجود هذا الوهم، وفي حالة الشك في وجود هذا الوهم، أي عند تقييم العلاقة بطريقة عقلية بحتة من خلال اجهاد الذهن في فهم معطيات هذه العلاقة ومدى إمكانية نجاحها، فإننا بذلك نكون قد استخدمنا. بوعي أو من دونه. معيار "المصلحة" وستكون استمرارية هذه العلاقة في هذه الحالة ليست نتيجة أن أحد الطرفين سيحقق للآخر ما يتمناه.. وللحب جانبان، يتشكل الأول من خلال أربعة تداخلات، وهي: الصداقة ثم التوافق الفكري فالعواطف وما يتبعه من انسجام نفساني، والجنس، ويلخص الجانب الثاني قدرة كل من الحبيبين على الاقتناع بوجود الحب، بمعنى قدرة كل من الحبيبين على صنع "بجماليون" للآخر، والعاطفة بين الجنسين هي الأكثر تشابكاً وتعقيداً فهي تتكون من عناصر حسية وجمالية وتبنى على الإعجاب المتبادل والود وحب التملك وتنشأ من خلالها حرية لا تتوافر إلا بإزالة الحواجز ما بين الحبيبين.
كم من المحبين في هذا العالم أحبوا بمنتهى الصدق مرات عدة، وكانت أحاسيسهم ومشاعرهم تجاه محبيهم في المرة الأخيرة كما في المرة الأولى، وليس في ذلك تناقض، فبالغوص في أعماق النفس البشرية نجد أن ذلك ليس إلا قدرة كل واحد على الاقتناع بوجود الوهم.
ما العمل إذاً؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا جميعاً: ما العمل؟ أنحب ونجسد الوهم في حقيقة.. أم لا نحب، ونعيش في الحقيقة فقط؟
لا نستطيع ألا نحب، فقتل الحب في الإنسان هو تفريغ لمضمونه الإنساني، إن أسباب الحب ودوافعه كثيرة ومتناقضة، غامضة ومبهمة، ولكننا في الوقت نفسه نكاد أن نتحسسها، نعم، فإن العلاقات الاجتماعية تتسم بعدم الاستمرار، وتتصف بالتذبذب وعدم الاستقرار، وهذا لتأثرها إلى حد كبير بعلاقات الإنتاج والعمل في المجتمع، إن لم تكن انعكاساً لهذه العلاقات. إننا جميعاً قلقون، تهتز الأرض من تحت أقدامنا، هذا هو الوقاع، وهذه هي الحقيقة فالمجتمع موجود ولكن المستقبل مجهول.
فمن منا لم يشك في تراجع حبه لمن يحبه عليه أن يتذكر حكاية هرقل وطريقه إلى الموت عبر الحب و بينما كان هرقل في طريق عودته إلى الوطن، مصطحباً زوجته الجديدة "ديانيرا" ولدى بلوغه نهر أيفينوس (Evenus)، وجده هائجاً سريع الجريان مليئاً بالدوامات ويصعب عبوره، فوقف يبحث عن مخرج، لم يكن هرقل خائفاً من العبور، بل كان يخشى على زوجته، وبينما هو في حيرة من أمره صادفه القنطور نيسوس، وعرض عليه أن يحمل عنه زوجته إلى الضفة الثانية. فرأى في العرض إغراءً، نظراً لمعرفة نيسوس بمواقع العبور الضحلة، ولدرايته بممرات النهر الغاضب. فعهد البطل لنيسوس بزوجته التي انتابها الوجل من هيئة القنطور واندفاع النهر، وبينما كان هرقل يرمي بقوسه وهراوته إلى الضفة الأخرى، كان القنطور ككتلة الصخر الصامدة المتحركة يحمل ديانيرا مخترقاً دوامات النهر الصاخبة، وما إن همّ هرقل بالتقاط القوس والهراوة من الضفة الأخرى، حتى سمع صراخ زوجته يتردد في الهواء، فألقى ببصره تجاهها، فوجد القنطور يسابق الريح ليهرب بها، وليجعلها محظية له، عندها تناول قوسه ورمى القنطور بسهم مشبع بسم الهيدرا الزعاف، فأصابه ليتدفق الدم على قميصه، الذي أهداه لديانيرا موهماً إياها بأنه تعويذة تحرك الحب الدفين إذا خبا.
الإفاقة الأولى
وبعد مرور الأعوام الطوال، وانشغال أسماع الدنيا بأعمال هرقل، خلعت ديانيرا عن نفسها عباءة الحقيقة، وأصغت إلى ثرثرة ربة الشائعات التي روت لها قصة حب تربط هرقل مع أيوليه، ابنة ملك أو يخاليا، وتراءى لها هرقل في لحظة انسيابه تحت العشق واستسلامه للنوم يطير مع معشوقته بلا أجنحة في عالم سماؤه أرجوانية اللون، كأنه يسبح في الهواء الذي حمله بعيداً إلى عش مليء بصغار البجع تصدر عنها أصوات تنادي أمها في موسيقى لم تسمع أجمل منها، ولوهلة تصورت نفسها تحلم، لكنها أفاقت منذ قليل فقط، فما معنى هذا المعنى؟ أليس اللاوجود أكبر وأغنى مما نعتقده موجوداً؟ وما معنى الصحوة والنوم؟
أفاقت من إفاقتها الأولى، فوجدت نفسها ما بين المعنى واللامعنى، معلقة في خيوط العنكبوت تحاول التخلص منها، وهي، وفي كل فجر جديد، تفصل الليل عن النهار، وكلما أصرَت علىالخلاص، جذبتها محاولاتها إلى المزيد من الغوص في تلك الشبكة. إنها الحياة أم الحلم أم اليقين؟ أم المستقبل يستبق ذاته؟ أم أنه ماض لم تعشه؟ إنها نقاط المطر تحاول إيقاظها خارج رحم الزمان، فالحاضر يفلت منها إلى الماضي دون أن تتذكره، والبجعة الأم المولودة من رحم الريح شطرتها إلى نصفين في اللحظة نفسها، والضربة ذاتها.
واختلطت الحقيقة بالخيال، فصدقت الشائعات، وحارت في ما تفعل، هل تقتل عشيقة زوجها، أم تتركه وتعود إلى كاليدون؟ أم تلزم الصمت؟ وتذكرت وهي في حيرتها، قميص القنطور نيسوس، تعويذة الحب إذا خبا، فأعطته إلى ليخاص ليقدمه هدية إلى زوجها، ولم تكن تعلم ما يخبئه لها القدر، ولم يكن ليخاس الطيب القلب يدري بمفعول القميص المشبع بدم نيسوس وسم هيدرا، تلك الأفعى التي هزمها هرقل وكانت كلما قطع لها رأساً نبت مكانه رأسان، وكانت جراحها تمدها بمزيد من القوة والعنف.
تحطيم المعبد
وبينما كان هرقل يحرق البخور ويقدم القرابين تقرباً للآلهة، كان السم يتسلل إلى جسده ونار الآلام تستعر في قلبه، فتحطم المعبد بصراخه الذي ملأ الكون. فانطلق مهرولاً محاولاً خلع القميص أو تمزيقه، لكنه لم يتمكن من ذلك، فلقد تداخل القميص مع جسده كتداخل خيوط الليل بخيوط النهار، ولم تستطع اليد التي خنق بها أسد نيميا الوحشي أن تفعل شيئاً، وها هو الكتف الذي حمل عليه السماء يتهاوى، أشفقت الآلهة على بطل الأبطال أن يحل به ما هو مكتوب على البشر وأن يبتلعه الموت فتحرر من شكله الإنساني الفاني وتجلّل بالهيبة والوقار، فرفعته الآلهة مخترقاً السحب والصعاب، معتلياً عربة فضية تجرّها جياد ذهبية، فأصبح نجمة تتلألأ في السماء، تستطيع – إذا أردت أن تراها – أن تنظر في ليلة صافية على يسار القمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق