محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

الأحد، نوفمبر 13، 2011

يا .. مسندم.. يا


لم تكن الساعة قد تجاوزت الثامنة مساءً عندما وصلنا إلى فندق “التوليب الذهبي” في محافظة “مسندم” العمانية. وكنا قد غادرنا أبوظبي قبلها بأربع ساعات، على متن سيارات “لاندكروزر

ومررنا برأس الخيمة ثم اجتزنا نقطة الحدود بين دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان المسماة الدارة.. دخلنا مسندم وهي محافظة تقع في أقصى شمال سلطنة عُمان، وتحتضن مياه الخليج العربي، ويبلغ ارتفاع جبالها الوعرة حوالي 1800 متر عن سطح البحر. وتمتاز سواحل مسندم بوجود الخلجان الواسعة الواقعة في وسط الجبال والتي تمثل متحفاً طبيعياً مفتوحاً لمحبِّي الجمال. أما رأس مسندم فيطلّ على “مضيق هرمز”الفندق الذي نزلنا فيه يقع في منطقة تسمى “خصب”، التي تستمد اسمها من خصوبة تربتها. كانت الغرفة المخصصة لي، في الطابق الثالث.وضعت حقيبتي فيها وعدت سريعاً إلى المصعد قاصداً الهبوط إلى بهو الفندق، فضغطت على زر الطابق الأول، وفجأة وجدت نفسي داخل دهاليز بها مزيد من الغرف.عدت ثانية إلى المصعد، فالتقيت بداخله بعض أصدقائي، يعتريهم الخوف والارتباك، قال لي أحدهم لقد حاولنا الوصول إلى مخرج، فلم نستطع، وأنت تعلم أن العُمانيين مشهورون بالسحر، تمالكت نفسي من الضحك، وأنا صاحب الجولات والصولات، في إِلحاق الهزائم بالسحرة والمشعوذين، مع صديقي “هاري بوتر”.ضغطت على زر الطابق الثاني، فهو الوحيد الذي لم نجرِّبه بعد، فإذا به المخرج بالفعل اتجهت فوراً إلى إدارة الفندق لتنبيههم إلى أهمية أن يشيروا في لوحة الأرقام بالمصعد، إلى وجود المدخل في الطابق الثاني، إذ ربما يُضّيع بعض الأشخاص بقية حياتهم في البحث عن مخرج في هذا الفندق المسحور بالحب والجمال.تناولنا العشاء في مطعم الفندق الواقع في الطابق الثاني، وكان الطبق الرئيسي من الأسماك، التي تبيَّـن لنا أن مصدرها دبي وعندما استفسرنا عن السر، أجابنا النادل بأن سمك مسندم يتم بيعه لفنادق دبي لأنه غالي الثمن، ويتم استيراد السمك من دبي لفنادق مسندم، وعجبي.في طريق العودة إلى غرفتي، عقب تناولنا العشاء آثرت أن أستخدم السلالم، وكان بصحبتي أخي، الذي دفعت به للصعود معي لرؤية السماء والنجوم تتلألأ في هذا الليل الجميل، ولكنه رغب في استخدام المصعد، وما أن خطوت بضع خطوات حتى أطبق الظلام على المكان، وعلق أخي في المصعد، فأخذت أتلمس طريقي وسط العتمة إلى موظفي الاستقبال، متمنياً أن أتعثر بإحدى الجميلات اللاتي صادفناهنَّ لدى دخولنا إلى الفندق، وفجأة اصطدمت بكتلة بشرية فحمدت الله على رضائه عني، إلى درجة أن حقق أمنيتي في اللحظة نفسها، أفقت من الصدمة على صوت رديء يقول: “تاندا باني – مانتاهيه”، فتبينت أن الهدف كان نادلاً هندياً وتورمت ركبته من قوة الارتطام، فأخذ يطلب ماءً بارداً ليعالج إصابته.أكملت مسيرتي وأنا أتمتم: “خيرها في غيرها”، وحاولنا مع العاملين في الفندق، إيجاد طريق للنجاة، لمن بداخل المصعد.استمرت هذه الحال عشر دقائق، انتهت بعودة التيار الكهربائي إلى المكان، وخرج أخي من المصعد وهو يتصبَّب عرقاً ويلعن “أديسون” والظلام، سألته بماذا كنت تفكر وأنت بداخل المصعد؟ فأجابني بأنه كان يعتقد أن المصعد سيسقط بشكل مباشر، لذلك جلس القرفصاء استعداداً لاتقاء فعل الاصطدام، وقد تراءت له الحياة كشريط سينمائي سريع، قصيرة إلى حد لا يصدق، فيما العبثية في هذه الحياة هي سيدة الموقف، وقال إنه منذ هذه اللحظة، وبعد أن كتبت له النجاة، فإنه سيقبل كل إمرأة يراها في طريقه.وفي صباح اليوم التالي استيقظت عند السادسة، وفوجئت بمارد أسطوري على هيئة جبل ممتطياً البحر، الذي كان هادئاً كالبساط، وبدأ رحلته اليومية في الثامنة والنصف، فبدأ يتحرك ببطء، ولكن بقوة، متجهاً إلى ذاته، وعلى صفحته يتصاعد الزبد الأبيض، وكأنه ينتقل من مكان إلى مكان. تخيّلت بأن مياهه ستنفذ إذا استمر على تلك الحالة.في العاشرة صباحاً جاءت حافلة سياحية لتقلنا إلى ميناء خصب لبدء الجولة البحرية. كان الميناء  صغيراً، تشمُّ الروائح الصادرة عنه قبل أن تصله بمئة متر، فالأطفال يقفون في كل مكان يبيعون البطاطا الحلوة “الفندال”، والشمام وأكياس مكدّسة على جانبي الطريق مليئة بـ “العومة” (السمك الصغير المجفف). فاخترقنا الروائح المنبعثة من كل الأمكنة، وصعدنا إلى مركب خشبي اسمه “المغامر”، يسير بإرادة الله - على صفحة الخليج العربي يدير دفته شخصان، أحدهما يُدعى “الحروز”، وشعره طويل يشبه “رونالدو دي كابري” في فيلم عصابات نيويورك، والآخر يدعى “قدور”، وهو مرآة لجبال عُمان، وجهه متحجر ولون بشرته أسمر طيني.تحرك المركب عابراً الخلجان وكانت طيور”اللوه” التي تستوطن الجبال ترفرف عن يميننا وعن يسارنا، بريشها الاسود القاتم. وتقتات هذه الطيورعلىالأسماك التي تنقضّ عليها من علو وهي تسبح في البحر عند انقضاضه، تخاله يشرع بالانتحار، ثم تفاجأ بخروجه ممسكاً بسمكة تتلوى من هبوب الرياح التي تبعثر أشعة الشمس على سطح البحر. ومررنا خلال الجولة البحرية، بمحاذاة عدة قرى تقبع في أحضان الجبل، ومنها “مقلب” و”قاناو” “النظيفي” والتي يبلغ عدد سكانها حوالي مئة نسمة يسكنون “خصب” في الصيف وينتقلون إلى النظيفي خلال الشتاء، ويقتاتون على صيد الأسماك وبيوتهم بدائية مبنية من أحجار الجبل، وملابسهم المعلقة على زوايا البيوت تشي عن حالة الفقر والحاجة لديهم. نظرتهم إلى الغرباء تملؤها الريبة والشك وهم من “الشحوح”، وهؤلاء هم سكان الجبال في المنطقة، الممتدة من رأس الخيمة إلى جبال عُمان، وهم مشهورون تاريخياً بالفنون التقليدية الغريبة، التي من أشهرها “الرزحة”، وهي مسيرة شعبية غنائية تتحرك من بيت الشيخ إلى مقر المحافظ، كما تقام كذلك، عند الذهاب بالعريس للسباحة في البحر قبل زفافه إلى عروسه، حيث يتقدم المسيرة عدد من الرجال الذين يمتشقون السيوف والتروس، ويقومون بالمبارزة أثناء المشي عبر التلويح بالسيوف والقفز في الهواء، يليهم ضاربو الطبول، ثم تأتي من بعدهم جموع غفيرة من الرجال الذين يترنمون أثناء المشي بالأهازيج الشعبية.مررنا على جزيرة “تلغراف”، التي كانت تستخدم في الحرب العالمية الثانية لحماية المنطقة، وقد سميت بهذا الاسم لأن خطين هاتفين يمران عبرها، واحد للبصرة وآخر للهند وكانت تتمركز بها حامية صغيرة من القوات البريطانية. ويمكن الوصول للجزيرة سباحة، فلا يوجد ممر بري أو خشبي يوصل إليها، وفيما تقف المراكب على بعد عدة أمتار منها، ويسبح الراغبون للوصول إليها. وهناك تجد الأجانب يستمتعون بالمياه حول الجزيرة، فهي صافية، في محيط صخري تكثر فيه أنواع من الأسماك الملونة.في الطريق، وجدنا بعض الصيادين، يرمون بشباكهم في الخليج للفوز بما لذّ طعمه وغلا ثمنه. لفتت انتباهي تلك القهقهة التي صدرت عن “الحروز”، لدى رؤيته للشباك المستخدمة، سألته عن السر، فأجابني بأنهم يستخدمون الشباك “الإسرائيلي”. وهم يطلقون على الشباك المصنوعة من النايلون ذوات الفتحات الصغيرة “الشبكة الإسرائيلية”، لأنها تأخذ كل شيء في طريقها، فتجد فيها السمك الكبير والصغير مختلطاً بالحجارة والحصى.من الأسماك الشهيرة في مياه عُمان، القباب، الصافي والكنعد، ولكل منها طريقة لاصطياده، وأشهرها الصيد بالقراقير، وهذه تصنع من الأسلاك المعدنية وقضبان الحديد، على شكل قبة لها فتحة مخروطية الشكل، تسمح بدخول الأسماك بسهولة، ولا تسمح بخروجها. وتتميز الأسماك التي تصطاد بهذه الطريقة، بجودتها العالية، لأنها تبقى على قيد الحياة إلى أن يخرجها الصياد من البحر.خلال عودتنا بين الخلجان المتداخلة، ظهرت لنا مجموعة من الدلافين، أخذت تداعبنا، فتقفز من الماء وتحوم حول المركب، وفي اللحظة اقترب فيها منا مركب آخر، على متنه نساء يرتدين ملابس البحر، جذبتهم الدلافين، فاقتربوا منها أكثر وأكثر، وباتت الأمواج تتراقص على خفقات قلوبنا، فارتبكنا، وتحول نظرنا إليهن، والأجساد اللينة تتمايل مع حركة المركب بفعل الأمواج، والدوائر تقترب وتبتعد، والشمس تلفحنا بأشعتها النارية. أخذنا نصفق للدلافين ونشجع الناظرات إليها، وصوت المذياع المتقطع يردد في صخب: يا مروح بلادك ليل والشمس غابت يا مروح وقلبي منكم ما ارتوى ارحمونا فضيله من لهيب الهوى

هناك تعليق واحد:

  1. مسندم - قرية الحرف - ولاية خصب - قولدن توليب
    أسماء رسخت في ذاكرتي .... تصور أني قضيت 26 سنة و3 شهور بهذه الأماكن حيث وصلتها ولا مكتب بريد ولا هاتف وخرجت منها وهي ذات مكاتب وفنادق وإنترنت ,و..... وآه كمان شوارع أسفلت , فقد كنا نسوق العربة في أرض وعرة ومصاعد خطرة خاصة حيث يقبع الآن القولدن توليب وحيث أعلى نقطة على الجيبل بقرية الحرف وذلك في ظل ظروف مناخية مؤلمة جدا خاصة في الشتاء ... سرحت بي بعيدا .... تصور أني استقلت من وظيفتي رغم مناشدات للبقاء وعدت للسودان ولكني رغم تنفيذ رغبتي الشخصية إلا أنني ندمت ندامة الكسعي خاصة إذا ما علمنا أنني لم أتأقلم على الحياة بعد بالسودان رغم مرور 16 شهرا منذ عودتي إليه بزحامه وصخب مدنه وتغير وجوه المارة الذين كنت آلفهم في صباي .... لا أدري لماذا يتملكني خوف يجعلني قابعا بمنزلي لا أبارحه أبدا ؟؟؟؟؟؟
    تحياتي لك فقد ذهبت بي بعيدا
    الشاعر السوداني / حسن إبراهيم حسن الأفندي

    ردحذف