محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

الجمعة، نوفمبر 11، 2011

أين تنتهي الأسطورة وأين يبدأ التاريخ؟





على الرغم من كل التحذيرات التي أرسلها زيوس زعيم الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية للبشر، فإنهم لم يرتدعوا ولم يسيروا على طريق الخير، وإنما بقوا أسرى للذة ولغواية المال. وبعد أن أعيته الحيل لإصلاحهم، دعا جميع الآلهة إلى اجتماع طارئ للتباحث بشأن مصيرهم، فاختلفت الآراء..
ورأى زيوس أن يحرق الأرض بمن عليها، إلا أن البعض نبهَّه إلى خطورة ذلك على مركز الآلهة، واقترح آخرون إغراق الأرض بالماء فقوبلت الفكرة بالاستحسان. هاجت البحار وماجت، وطاولت الأمواج عنان السماء، وتسابقت الأنهار في الوصول إلى مصبّاتها، واتسعت رقعة المياه، وانحسرت اليابسة، فعلقت الأسماك على أغصان الأشجار، واصطدمت الحيتان بالجبال، ولم يتبق إلا مركب صغير على قمة جبل ساحر يتهادى محاطاً برعاية الآلهة وعلى متنه "ديوكاليون" الصالح و"بيرا" التقيّة، ولم يستطع زيوس إهلاك عباده المخلصين فأبقى عليهم.
وقد روّع ديوكاليون وبيرا ما رأياه من أهوال المياه عندما تغمر اليابسة، وأحوال البشر والحيوانات البائسة التي أخذت تقاوم الغرق دونما فائدة، وإذ بزيوس يرقّ لحالهما، لتقواهما ولصلواتهما التي لم تنقطع، فأمر "بوسيدون" إله البحار، بأن يسحب المياه إلى قيعان المحيطات، فبانت الأرض الرطبة من جديد، وجرّ "أبولو" عربة الشمس الذهبية إلى الأفق فأينعت الأشجار وجفت المستنقعات.
فزع "ديوكاليون" و"بيرا" لما وجدا نفسيهما من دون أهل أو أصدقاء؛ فالأرض من دون البشر يصعب العيش عليها. وتضرَّعا إلى الآلهة من أجل إصلاح ما حاق بالجنس البشري، فأوحت لهما بالأمر الإلهي: "اخرجا من معبدي، وضعا على رأسيكما غطاء، وتخفَّفا من الأحزمة التي تشد ثيابكما، واقذفا وراءكما عظام أمّكما الجليلة".
ولقد فطن "ديوكاليون" إلى أن الأم الجليلة المعنية هي الأرض، وأن تلك العظام ليست غير الأحجار التي في باطنها، فهبطا من قمة الجبل بعد أن تخفَّفا من أحزمتهما وأخذا يلقيان بالأحجار وراءهما، وكان كل حجر يلقيه "ديوكاليون" يأخذ صورة رجل، وكل حجر تلقيه "بيرا" يأخذ صورة امرأة.
.. حين يمعن المرء التفكير في تلك الأسطورة يكشف له أنها لم تقع إطلاقاً، ولكنها ليست تافهة بل لا تخلو من الحكمة، كما أنها ليست ثمرة خيال محض نسجها إنسان يهذي. وعلى الرغم من استحالة القول إن الأحداث بالفعل إلا أنه بمقدورنا أن نفهم لماذا اختلق الإنسان هذه الأسطورة، وهي تحمل دائماً الأحداث والوجود وتداعياته خارج الزمن وخارج التاريخ. ولذلك يختلط علينا تحديد أين تنتهي الأسطورة وأين يبدأ التاريخ؟ فالأسطورة تعطي الإنسان وهم فهم الكون ووهم معرفة الحقيقة، وتحاول أن تفسّر الظواهر الإنسانية والطبيعية، أما التاريخ فيعطينا تسلسل الأحداث والتشديد على المعنى والمحتوى الكامن في تسلسلها، وهو يدخلنا في الزمن في حين تُخرجنا الأسطورة منه. 
إن المرء غير المدرك للأساطير فهو الذي يعيش بالأساطير الكبرى. فالفكر يستعين بالرموز من أجل محاولة إدراك الواقع الحقيقي للأشياء، لأن الوجود يتجلى في صور عديدة وقد تكون متناقضة في بعض الأحيان. والحياة مليئة بالأساطير التي تحكم مواقف الإنسان تجاه الحياة نفسها، من دون أن يعي تأثيرها فيه.. وكل وجود هو وجود مؤقت، وما هو موجود مصيره الزوال، والموت هو الحقيقة الخالدة والمصير المحتوم. وإذا نظرنا إلى مفردات الوجود كالإنسان الفرد، فهي ظل الوهم لأن بقاءها – قياساً إلى إيقاعات الكون – هو لحظة كالومضة التي تضيء لثوان ثم يبتلعها العدم وتختفي.. وكل مكانة يتبوؤها الإنسان تافهة إذا ما أدرك الموقع الذي يحتله قياساً إلى الكون، أو إذا أدرك أن الطريق إلى الحياة، على الرغم من اتساعها، يمر عبر ممر ضيق وحرج في آن معاً.
فالإنسان كائن تاريخي محدّد بزمانه وتاريخه الذي يحياه بعيداً عن زمان آبائه وأجداده، وبعيداً عن مكان غيره من المعاصرين له والمختلفين عنه في ثقافتهم وتركيبتهم التاريخية.
وعلاقة الإنسان بمحيطه البيئي والاجتماعي والحياتي بشكل عام، وعلاقته بكل ما هو آخر، يتم إدراكها من خلال أبواب الحواس الخمس، فهي الممر إلى الإدراك الذي يختلف من شخص إلى آخر وفقاً لمستوى لاوعي الذي هو محصلة لتجربة عملية وتربية نظرية. ويجدر بنا التفريق هنا ما بين أمور موضوعية جرى الاتفاق عليها كالألوان؛ ذلك أن من يرى اللون الأسود أو الأحمر يدرك أن هذا هو اللون ذاته المقصود، وتبقى القيمة الارتباطية للّون – أي المعنى – هي محصلة تجارب سبق أن خاضها الشخص، ومن خلالها يتولد لديه الإحساس بجمال اللون أو قبحه، وكذلك الدائرة أو المثلث أو المربع؛ الجميع متفقون على أن الشكل المقصود هو دائرة، ولكن وجهات النظر تختلف من شخص لآخر حول كون الدائرة جميلة أو قبيحة، فمدلول المعنى محل اختلاف وشكله متفق عليه. والحواس تمارس علينا الخديعة، فعندما ننظر إلى السماء نراها زرقاء، ومهما صعدنا إلى الأعلى فلن نرى السماء أو الزرقة. وكذلك عندما ننظر إلى الأشياء البعيدة نجدها صغيرة، وكلما اقتربنا منها نجدها كبيرة. فالحواس تعطينا معرفة منقوصة، وقد تكون مراوغة.

 وهكذا فالمعرفة الكلية خارج نطاق حواسنا ولا نستطيع إدراكها إلا بالعقل، وعلينا ألا نضع كل ثقتنا في حواسنا، فالإنسان حيوان مقيّد بأبواب المعرفة الخمس ومحكوم بغرائزه.
واستخدمنا للعقل يستدعي صرامة ذهنية حادة لإعمال المنطق على كل ما هو غير منظور وإخضاعه للمعقولية كمقدمات تؤدي إلى نتائج منسجمة مع تلك المقدمات. 
وعودة للأسطورة، تلك الصيغة الإبداعية التي تنزع الإنسان من زمانه الدنيوي، وتنتقل به إلى العالم المقدّس، العالم الذي يرتاح فيه إلى الوهم. فتلاوة الأسطورة تمحي الزمن الحاضر وتُخرج الراوي والمستمع إلى وهم الحقيقة التي يبحث عنها الفرد لإنقاذه من رتابة الحياة وفنائها، وتلوّح له بالخلود. وهي تلعب الدور نفسه الذي يلعبه التطهير من الخطايا ومحو الماضي بالاعتراف بالذنوب أو ذبح كبش فداء.
والطقوس المقدسة هي خروج من الزمن الدنيوي إلى الزمن المقدس، فاليوجا تطلق على الرياضة الصوفية التي يؤديها حكماء الهند، وهي خروج من الزمن الدنيوي إلى الآخر الكوني بهدف الاتحاد بالروح الكونية. والبوذية، وهي تطلق على الخير الأعلى، تسعى للخروج من الزمن الدنيوي بنكران الذات لبلوغ مستوى "النرفانا" وفناء الذات في الكل، وكلما ازداد المؤمن خشوعاً في صلاته ازداد خروجاً من الزمن الذي لا وجود لشيء خارجه، وقد وقع في الماضي التي تفصلنا عنه مسافة زمنية هي من القوة بحيث تجعلنا نقول إنه ذو جبروت من حيث تمامه وإنه ضعيف في آن واحد، لأنه صار في العدم.. وما إن تستكمل قراءة هذه الكلمة فسيكون الماضي قوة ابتلعها، وسرعان ما تصاب بتوتر توقع المستقبل وقلق الخوف من الآتي.

تفسر الأسطورة في نهاية المطاف كيف جاء البشر إلى الوجود، وكل الحضارات لها أساطير حول الخلق، وهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإعادة تأويل الماضي، كما أنها تلعب دوراً في استشراف المستقبل، وتحاول أن تحدد إلى أين نحن ذاهبون.. وتلخص أساطير كل مجتمع مجموعة خطاباته الرمزية التي تخلق هوية ذلك المجتمع وتكون جزءاً أساسياً من تكوينه الثقافي. وتكمن قوة الأسطورة في ارتدائها قناعاً من الخيال يخفي الحقيقة المتوقعة التي يمكن أن يعاد تأويلها على ضوء الأحداث الواقعية الحاضرة.

وغالباً ما تعتمد النخب الحاكمة على القوة المعرفية لرموز الأساطير وتأويلها لإضفاء الشرعية على سلطانها.. والأمثلة كثيرة؛ ذلك أن عصراً كاملاً من أهم عصور مصر القديمة (عصر الرعامسة) – مثلاً – قد بدأ مستنداً على تأويل الأسطورة ومحاولة استثمارها لإضفاء الشرعية السياسية، كما في حال مؤسس الأسرة (سيتي الأول) الذي بدأ حكمه على مصر بقصة حكاها وحرص على نشرها.. قال إنه كان نائماً بين يدي أبي الهول، فجاءه هذا الأخير في الرؤيا، وكلفه حكم مصر وإخراجها من حالة الفوضى التي سبقت عصره، فامتثل سيتي الأول للأمر! ولولا هذا التوظيف للأسطورة ما كان للمصريين القدماء أن يرضوا بحكم (سيتي) الذي كان على دين (ست) الذي يعتبر في الوادي إلهاً للشر، ومعادياً للإله المعبود في وادي النيل: حورس.
وعليه، فلا وجود لأسطورة سيئة وأخرى حسنة، ولكن التأويل هو الذي يضعها في هذه الخانة أو تلك. ومن يحاول أن يهدم الأسطورة فإنه يشيد أخرى على أطلال الأولى. ومن منا يجرؤ أن يجرح الفضاء؟ إنها محاولة الإنسان المستمرة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه، فكيف الوصول إلى اليقين في عالم يموج بعدم اليقين؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق