عزٌ دائم
ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في أوائل القرن السابع الميلادي، فرفع العرب من قبائل متناحرة إلى أمَّة تحكم دولة تمتدّ من الصين شرقًا إلى بلاد المغرب والأندلس غربًا؛ ومن القوقاز شمالاً حتَّى المحيط الهندي جنوبًا.
وقد حمل مسلمو هذه الدولة مشاعل العلم والثقافة ونشروا في أرجائها حضارة تمكَّنت من الصمود زهاء عشرة قرون في مواجهة مختلف المحن والأعاصير الَّتي عصفت بها، ثم قدَّمت للعالم الأسس والأصول الَّتي قامت عليها فيما بعد الحضارة الأوروبية الحديثة.
وبينما كان الرسول (صلّى اللّه عليه وسلّم) يدعو العرب إلى الإسلام، ويجمع شملهم على عقيدة التوحيد، ويهذِّب طباعهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور تحت راية الإسلام، كان الصراع العنيف بين أكبر إمبراطوريتين في العالم حينذاك، الروم والفرس، قد بلغ ذروته. كانت الغلبة للفرس، عَبَدَة النار، على الروم المسيحيين، ممَّا أحزن المسلمين في الحجاز، فهم أهل كتاب مثل المسيحيين الروم.
وبلغت انتصارات الفرس معظم آسيا الصغرى وبلاد الشام، وما لبثوا أن استولوا على بيت المقدس ومصر. إلا أن الروم استعادوا قوَّتهم بزعامة >هرقل<، الذي انتصر على الفرس حتَّى بلغ عاصمتهم، المدائن. وهنا وضعت الحرب أوزارها، وعُقِدَ الصلح بينهما، فخرجت الدولتان وقد تحطَّمت قواهما، واستنزفت الحرب مواردهما، وابتليت شعوب الإمبراطورية الفارسية بالضرائب الباهظة وقسوة الحكَّام وعسفهم في طريقة فرضها وجمعها، كما ابتليت إمبراطورية الروم بقسوة الحكَّام وعسفهم بالمخالفين للمذهب الديني للدولة.
أتمَّ الرسول (صلَّى الله عليه وسلَّم) نشر رسالته بين العرب، وأرسل كتبه إلى ملوك العالم وحكَّامه يدعوهم إلى الإسلام، وحين انتقل إلى جوار ربّه كان قد خلَّف العرب أمَّة واحدة، مؤمنة بوحدانية اللَّه وبعقيدة الدين الحنيف، الَّتي كانت لهم سراجًا أنار لهم السبل لفتوحاتهم في بلاد الفرس والروم. لقد هذَّب الدين الإسلامي طبائع العرب، وساوى بين المسلمين، وآخى بينهم، ووجَّه عقولهم إلى ما أودعه اللَّه من خير وجمال في هذا الكون، ووجَّه قرائحهم إلى الوقوف على أسراره، وأهاب بهم العمل للتمتُّع بخيرات الدنيا ونعيمها، وأن يعبدوا اللَّه أملاً بالآخرة ونعيمها. ولم تكن للعرب قبل الإسلام مدنيّةٌ يُعرفون بها، ولا يعني ذلك أنَّهم كانوا شعبًا بعيدًا عن الحضارة، فالواقع أن العرب كيَّفوا حياتهم ونظام معيشتهم على وفق جغرافية بلادهم، فعرب الجنوب: اليمن وعدن، كانوا يعيشون في إقليم خصب التربة وافر المطر، فاعتنوا بالزراعة والري، وعاشوا حياة مستقرَّة، ومارسوا التجارة بين الشرق الأقصى والمدن المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط، وعرَّفتنا آثارهم وجود مملكة عظيمة هي المملكة المعينية 1500ق.م، ثم مملكة سبأ، الَّتي ظهرت في القرن الثامن ق.م، واشتهرت بقصورها وعمائرها، ثمَّ مملكة حِميرَ 115 ق.م، الَّتي واجهت صراعًا مع الإمبراطورية الرومانية على الطريق التجاري عبر باب المندب إلى الشرق الأوسط، ونجحت جهود عرب اليمن في طرد منافسيهم من طريقهم. وفي القرن السادس الميلادي اشتدَّ الصراع الديني بين اليهود والمسيحيين، الذين تعرضوا لمذبحة بشعة مما دفعهم إلى الاستعانة بدولة الروم لإنقاذهم وحمايتهم، وطلب إمبراطور الروم من نجاشي الحبشة الانتقام من اليهود، فأرسل النجاشي جيشًا انتصر على >ذي نواس<، ملك اليمن، وأصبحت البلاد وعرب الجنوب تحت سلطان الروم، فاضمحلت حضارتها، وتصدَّع سدّ مأرب العظيم، وساد الفقر البلاد، فهاجرت قبيلة بني غسَّان شمالاً باتجاه بلاد الشام، وظلَّ عرب الجنوب يقاسون سوء الحكم الروماني، حتَّى أنقذهم إخوانهم عرب الشمال في فجر الإسلام.
ثريا من مسجد السلطان قايتباي
وفي الشمال أقام العرب على أطراف الشام والعراق منتجعًا للمرعى، واستقروا في الأراضي الخصبة، وأنشؤا إمارات لهم كانت على علاقات سياسية وحربية مع الروم ضدَّ الفرس. وذكرت مصادر التاريخ مدنًا مثل >البتراء< الَّتي دمَّرها تراچان، وأسَّس العرب أيضًا إمارة >الحيرة< الَّتي تحالف أمراؤها مع الفرس ضدَّ الروم. وفي القرن الرابع الميلادي أسَّست قبيلة بني غسَّان إمارة على حدود الشام وتحالفت مع الروم ضدَّ الفرس وكلَّما قويت شوكت الغساسنة أطاحت بهم الدولة الرومانية ونفت أميرهم إلى صقلية، وحين اعتنق عرب >الحيرة< المسيحية، قضى الأكاسرة على هذه الإمارة أيضًا. كان عرب الحجاز أهل تجارة يتنقلون بين الجنوب والشمال وكانت عاصمتهم مكَّة، حاضرة بيت اللَّه الحرام. وقد نصبوا فيها أوثانهم ونظَّموا الحج إليها. وكما كانت الوثنية منتشرة في أهم مدن الحجاز، مثل مكَّة والمدينة والطائف، انتشرت اليهودية والمسيحية أيضًا، وعن طريق قوافلهم التجارية ألمَّ العرب بالأحوال السياسية والحربية والاجتماعية والدينية في كل من بلاد الفرس والروم. ولذلك لا نستطيع القول إن العرب لم يكونوا أهل حضارة، وإنما ـ نظرًا لطبيعة بلادهم ونظام معيشتهم القبلي ـ لم يتقبَّلوا النّظم الحضارية، وإن ألمّوا بها وعرفوها. وانطلق المسلمون ـ وقد تشرَّبت قلوبهم بعقيدة الدين الحنيف ـ إلى بلاد الروم والفرس، فنزلوا على أهلها بردًا وسلامًا. ولم يغيّر المسلمون ما تعوَّد عليه أهل البلاد المفتوحة من نظم إدارية أو عقيدة دينية أو لغة قومية، وبدخولهم الإسلام تعلَّموا اللُّغة العربية، لأنَّها لغة القرآن الكريم كما هي لغة الحكَّام. ولم يشتغل العرب، في بدء حياتهم وتاريخهم الإسلامي، بالزراعة والصناعة، ولكنَّهم تركوا أهل البلاد يمارسون تلك الحرف، واهتموا من جانبهم بالنهوض بالسياسة الزراعية فنقلوا مزروعات بعض البلاد إلى ما يوائمها من بلاد أخرى، وكذلك بتحسين وسائل الريّ وإقامة المشروعات المائية في جميع المناطق الزراعية الَّتي كانت تابعة لهم، كما شجَّعوا التجارة ونظَّموها في البحر الأحمر والخليج العربي إلى الهند، ثم عبروا الهند إلى الصين، وأنشؤا بها الموانئ البحرية الَّتي تخدمها، والمحطَّات التجارية على طريق القوافل البرية، من الهند حتى الشام، وأحاطوا الصناعات والفنون(1) برعايتهم. كما تحسَّنت في العصر الإسلامي صناعة ورق البردي(2) في مصر، وكانت دولة الروم أكبر عميل لاستيراده.
وقد بلغ طول الورقة الواحدة ثلاثين ذراعًا، حلِّيت بتطريزات عليها عبارات التثليث، وفي عهد عبدالملك بن مروان الأموي، استبدل التثليث بعبارات إسلامية. وأدَّى نشاط التجارة في العصر الإسلامي إلى رخاء دولة الروم وتحقيق عظمتها أمام الدولة الرومانية الغربية، فقد كانت دولة الروم تسيطر على التجارة الواردة من العالم الإسلامي في شرق البحر المتوسط إلى القسطنطينية، وتقوم بتصريفها في البلاد الأوروبية التابعة لها. ولما سقطت >صقلية<، ثمَّ >باري<، في أيدي المسلمين الأغالبة في القرن التاسع الميلادي، نشطت التجارة بين ميناء هذه المدينة وموانئ مصر والشام. رغم الصراع الدامي بين الدولة الإسلامية ودولة الروم، فقد فتحت الدولة الإسلامية أبوابها ومسالكها للتجارة مع الروم، وكذلك أقبل علماؤها وحكَّامها على استخراج العلوم والثقافة اليونانية، وقاموا بنقل التراث اليوناني إلى اللغة العربية، وعرِّبت قوانين البلاد المفتوحة ونظمها الإدارية كما عرِّبت علومها وثقافتها. وبلغ من عناية الأمراء المسلمين بالعلوم والثقافة أن أمر عُمر بن عبدالعزيز الأموي بنقل مدرسة الإسكندرية إلى إنطاكية، حيث كان مقرّ الخلافة في دمشق، وكلّف خالد بن يزيد بن معاوية بعض علماء الإسكندرية بترجمة كتب الكيمياء التي كان هو نفسه مهتمّـًا بها، وترجم >ماسرجويه< الطبيب الفارسي، كتابًا في الطبّ من اللّغة السريانية إلى العربية، وبذل الحكَّام المسلمون الأموال لاستجلاب المخطوطات من اليونان وفارس والهند، وأغدقوا على مترجميها. وفي العصر العباسي ظهرت حركة الترجمة، ممَّا حدا بالخليفة المأمون، إلى تأسيس >بيت الحكمة<، وخصَّص لجنة للإشراف على الترجمة. وفي هذا العصر تُرجمت كتب >أرسطو< و>إقليدس< وغيرهما، ونبغ من المسلمين نخبة من العلماء، وضعوا أصولاً ومصنَّفات للعلوم، ظلَّت حتى القرن السابع عشر المراجع الأساسية في الجامعات الأوروبية. وبظهور المدارس الإسلامية، من شيعة ومعتزلة وعلوية، ظهرت حركة ضخمة في الرأي والفكر، وحقد الفرس على الأمراء الأمويين، لاستئثارهم بالسلطان وقصرهم مناصب الحكم والإدارة والوزارة على العرب، ودعوا للعباسيين حتى أظهروهم على الأمويين وأزال العباسيون دولة بني أميَّة، بتأييد من الفرس ولم يلبث هؤلاء أن أحسَّوا بطموح الفرس إلى مناصب الحكم الرئيسة، فقضوا على تلك النزعة بمنتهى الصرامة، وخاصَّة روح الزندقة التي بدأت تنتشر في عصر الخليفة المهدي العباسي. ولا ننسى أن السامانيين، وهم من الفرس الذين حكموا بلاد ما وراء النهر في العصر العباسي، قاموا بإحياء اللُّغة الفارسية ومالوا إلى تقاليدهم وتاريخهم القديم، وفي عهدهم نظم >الفردوسي< الشاعر >الشاهنامة<، التي مجَّد فيها الفرس وتاريخهم، ولا تزال >الشاهنامة< توحي إلى الإيرانيين حتى اليوم بمعاني الوطنية والوحدة القومية. ولمقاومة تطلُّعات الفرس إلى السلطان استجلب الخلفاء العباسيون الجند الأتراك، وأكثر منهم المعتصم، فكان هؤلاء أشدّ خطرًا على الخليفة والخلفاء من الفرس. ومع انقسام العالم الإسلامي في العصر العباسي إلى دويلات مستقلَّة تابعة للخلافة تبعية اسمية، إلاّ أنّ الدين الإسلامي كان الحبل المتين الذي ربط كل الولايات الإسلامية برباط واحد، وكان المسلم ينتقل من أي بلد من الشرق إلى آخر في الغرب فلا تعترضه أية عقبات أو حواجز، بل كان يجد ـ حيثما نزل ـ قومًا يدينون بدينه ويتكلَّمون لغته، ويشاركهم في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. وكان الحكَّام والأمراء والسلاطين والولاة وعلية القوم يولون الصناعات والفنون كلّ عنايتهم ورعايتهم. وكما كانوا يجلبون العلماء والشعراء والأدباء، كانوا يستدعون أصحاب الحرف والفنون، لتحقيق رغباتهم في ما يريدون إنشاءه وما يرغبون فيه من حلية وزينة. وكان الفنانون أنفسهم يسعون وراء الحكَّام والأمراء، يعرضون عليهم فنونهم ومنتجاتهم. وعادة ما نرى ازدهار الفنون في عهود الرخاء، وقوَّة شخصية الحكَّام، ولذلك كان للحكَّام المسلمين، من العرب أو من غيرهم، تأثير كبير على تطوّر الفنون الإسلامية وازدهارها.
قلادة من الذهب من القرن 7 هـ كتب على الهلال الصغير “عز دائم”
اتَّسمت جميع الفنون الإسلامية بوحدة الأسلوب والتقاليد، وبوضوح شخصيَّتها وعبيرها الشرقي ورونقها وجاذبيتها، رغم تعدُّد المدارس الفنِّية واختلاف الأشكال. فلم يكن مستغربًا آنذاك أن نرى أسلوبًا جديدًا في أحد الفنون، منبته في مصر مثلاً، قد جرى اتباعه في الآن نفسه في الأندلس أو في إيران، ويرجع ذلك إلى خضوع العالم الإسلامي لحكومة واحدة يرأسها الخليفة، وإلى وحدة العقيدة وتقارب التقاليد وحرِّية الانتقال والإقامة بين بلاد العالم الإسلامي، وما يصحب ذلك من سهولة انتقال الثقافات وتقاربها. يختلف الفن القبطي والفن الساساني عن الفن الإسلامي في نوعيته، ففي الأولين يوجد فن ديني من شأنه تزيين الكنائس وتصوير القدِّيسين والبطاركة وسائر احتياجات الكنائس، وهو فن يقوم على إبراز العقيدة المسيحية وتقديمها للمسيحيين، وفن دنيوي من شأنه خدمة الاحتياجات الدنيوية من زخارف وزينة. أمَّا الفن الإسلامي فهو فن دنيوي عامّ، فالزخارف والحليات التي نراها في المساجد، والكتب الدينية، هي نفسها التي نراها على جدران القصور والأسبلة والدور وسائر أنواع المتاع، ما عدا الصور الآدمية والحيوانية فإنَّها لم تكن تحلّى بها جدران المساجد ولا الكتب الدينية. والفسيفساء مثلاً، التي حلِّيت بها المحاريب وجدران المساجد، هي نفسها الَّتي نراها على جدران القاعات والفسقيات والأسبلة. وعلى ذلك نستطيع أن نقول إنَّ الفن الإسلامي لم يكن له أي اتجاه ديني أو تاريخي، وإن كان يعبِّر أحيانًا عن مظاهر الحياة الاجتماعية السائدة. وإذا كان العرب قد استفادوا من بعض الأساليب الزخرفية(3) في الفنون القبطية واليونانية والساسانية، إلاّ أنَّهم لم يقلِّدوا تلك الزخارف، بل أدخلوا عليها قدرًا من التحوير يتناسب مع ذوقهم الخاصّ وبقدر إعجابهم بالفن أو الزخرفة المستعارة. ولذلك نرى فن تحوير الأوراق النباتية، مثل ورقة الأكانتوس، وورق العنب وسيقانه، والأوراق المسماة بالمراوح النخيلية، وما أدخل عليها من تقصيص وعلى فروعها من انحناءات والتواءات ما سمِّي بفنِّ التوريق المتشابك، أو فن (الأرابيسك) وأصبح هذا الفن أحد الفنون الإسلامية ذات الطابع المستقل. وفي تفسيرهم لنشأة الفن يذهب كثير من علماء الاجتماع إلى الربط بين الدين والفن، فيُرجعون نشأة الفنون إلى المعبد، لأن هذا الأخير هو بداية فن المعمار. ثمَّ ظهرت الحاجة إلى تزيين جدران المعبد بالزخارف والألوان وملء ساحاته بالتماثيل والتمائم. ولمَّا كانت العبادة تستلزم إقامة الاحتفالات الدينية، فقد ظهرت على التعاقب فنون الرقص المقدّس والموسيقا والغناء، فكان الدين هو الظاهرة الاجتماعية الكبرى التي عملت على ظهور الفن وتطوّره(4). وكانت البدايات الأولى للفن عند الإنسان البدائي ومحاولته معالجة الأحجار، وتشذيبها ليصنع منها أدوات للصيد ووسائل للدفاع عن النفس وبعض الأدوات الزراعية والمنزلية. التي تفي بمتطلباته المعيشية وتحافظ على حياته. ولمَّا كانت الحياة سلسلة متَّصلة من حلقات التطوّر، فإنَّ الحضارة الإسلامية وفنونها تشكِّل حلقة بارزة المعالم في هذه السلسلة، وإن كانت الحضارات تجود بمقدار ما تأخذ وتزيد. ولمَّا كانت الفنون الإسلامية في مصر هي التي تعنينا في هذا المقام، وهي شطر من تلك الحضارة المتتابعة، فإنَّه يجدر بنا البحث عن جذور هذه الحضارة من منبتها في وادي النيل القديم. إنَّ أقدم حضارتين وقف التاريخ على آثارها، هما المصرية والسومرية، منذ خمسة آلاف عام قبل الميلاد، ووصلت كل منهما إلى درجة رفيعة الشأن. وأثَّرت كلّ منهما في البلاد المجاورة لها، فقد أثَّرت الحضارة المصرية القديمة في فلسطين والشاطئ السوري وجزر البحر الأبيض المتوسط الشرقية، قبرص وكريت، التي أخذت الكثير عن حضارة الفراعنة، ثم نقلتها في عصور متأخِّرة إلى اليونان. كما أثَّرت الحضارة السومرية على العراق وأطراف آسيا الصغرى وغرب إيران. لقد نبعت الحضارة المصرية من وادي النيل، وهي حضارة أصيلة في مصر، وقد تطوَّرت خلال تلك الحقبة رغم ما اعتورها من اضمحلال أحيانًا، وازدهرت حتى بلغت أعلى الدرجات من سُلَّم الإبداع. منذ العصر الحجري الحديث، أي منذ أربعة آلاف عام قبل الميلاد وعصر ما قبل ظهور الأُسر، وجدت أوانٍ حجرية وفخارية ذات مقابض وعليها رسوم ملوَّنة لحيوانات ونباتات.
وتمتاز هذه الأواني بنعومة سطحها وصقلها، ولبعضها صنابير. كما وجدت آلات مصنوعة من الحجر الصّوان، وهي من أدقّ وأجمل ما عرف من هذا النوع من العصور القديمة. كانت لبعض هذه الآلات مقابض من العاج مغطَّاة برقائق من الذهب، وقد حُفرت عليها بعض الرسوم وصقلت نصالها، من العاج والعظام. ومن الصّدف صُنعت أدوات الزينة من أمشاط وإبر وملاعق وأساور وخواتم، على بعضها نقوش تدلّ على شعارات العشائر. وفي ذلك العصر أيضًا تمَّ اكتشاف النحاس فجرى صقله وجُعل رقائق بوساطة الطَّرْق. كما تطوَّرت في عصر ما قبل الأسر صناعة السلال والحصر والجلود والحبال. كذلك تقدَّمت صناعة الغزل ونسيج الكتَّان وشيِّدت المساكن من عدَّة حجرات، بجدران من كتل الطين والحجارة غير المنحوتة، وسقوف من فروع الأشجار وأعواد الغاب المغطَّاة بطبقة من الطين(5). وبدأ عصر الأُسر في القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ تطوَّرت الحضارة المصرية في جميع النواحي بصورة متتابعة، وإن اعترت هذا التطوُّر فترات من الركود لم تزد في مجموعها عن ربع تاريخ الحضارة المصرية حتى القرن الرابع قبل ظهور المسيح ـ عليه السلام ـ. ولاشك أن الحضارة المصرية القديمة وفنونها قامت على أسس العقائد الدينية السائدة في كل عصر من عصور أسرهم التي بلغت ثلاثين أسرة، وقد أقيمت معابدهم ومقابرهم تلبية لمطالب عقيدتهم في الحياة الثانية. ولم يتخلَّ مهندسو عصر الأسر عن التقاليد المعمارية القديمة، وإن أحدثوا عليها كثيرًا من التطوير، فالأعمدة الَّتي يقوم عليها هيكل المسكن قد صارت أساطين ضخمة من حجارة منحوتة على شكل حزم الغاب أو جذوع الأشجار، وشُكِّلت تيجانها بشكل زهرة اللُّوتس المتفتِّحة أو المقفلة.
وحلّيت الأساطين بالزخارف النباتية المتنوِّعة والمستمدَّة من نباتات وادي النيل، وزُيِّنت بألوان زاهية، فيما زُيِّنت جدران المعابد والمقابر بالصور المحفورة للطقوس الدينية، مثل تقديم القرابين للآلهة، وتصوير حياة الملك وزوجته، وحفلات الصيد والمعارك، وغير ذلك من الصور التي دلَّتنا على الكثير من أوجه الحياة الاجتماعية للمصريين القدماء. ويبدو على تلك الصور والرسوم والزخارف جمال النقش ونعومته ونقاوته وحيويَّة التعبير ووضوح التفاصيل وجمال التلوين، ومهارة فائقة في التنسيق. كذلك زُخرفت السقوف وطُليت بالألوان الزاهية التي أضفت عليها البهجة والجمال. وقد ورث فراعنة عصر الأسر، في ما ورثوه عن العصر الحجري الحديث وعصر ما قبل الأسر، صناعة الفخَّار ذي السطح المصقول المزخرف بالخرز وقد نُقِّطت زخارفه الهندسية باللونين الأبيض والأحمر. وكذلك ورثوا عنهم صناعة الخزف والزجاج(6). غير أن فن هذه الصناعة تطوَّر في عصر الأسر وخاصَّة في عصر الأسرة الثانية عشرة، ففي هذا العصر عرف الفراعنة الزجاج الملوَّن، وتركت لنا آثارهم مصنوعات خشبية من آثاث وتوابيت وأَسِرَّة ومقاعد وكراسيّ، بعضها عليه زخارف ونقوش، وقد لوِّن عرش توت عنخ آمون وطُعِّم بالأحجار الكريمة. وبعد أن كانت التوابيت عبارة عن صناديق مستطيلة ذات غطاء مسطَّح، أصبحت على شكل مومياء وغطاؤها محدَّب ونُقشت أسطحها بالنصوص الجنائزية فوق طبقة بيضاء غطَّت سطح التابوت لإخفاء الشقوق والعيوب التي في الخشب وجعله مسطَّحًا أملس يتسنَّى معه النقش على استواء. كما طعَّموا الخشب بالأبنوس والعاج وصنعوا من العاج الأمشاط والملاعق وأدوات الزينة، وزُخرفت هذه المصنوعات بمختلف أنواع الزخارف النباتية والحيوانية وبموضوعات دينية واجتماعية. وظلَّت هذه الفنون، بأصولها وأساليبها المصرية الصميمة، قائمة في مصر طوال عصر الأسر، زاهية مزدهرة متطوِّرة، حتّى الأسرة السادسة والعشرين، حينما اتَّصل اليونانيون بمصر للتجارة، ولم يكن لليونان حتى ذلك التاريخ أية حضارة تذكر. ودخل اليونانيون في المعابد المصرية وتعلَّموا علومهم وتغنَّوا بأناشيدهم وألـمُّوا بفنونهم وصناعاتهم، واتَّخذ ملوك الأسرة السادسة والعشرين جنودهم من اليونانيين، وكانت علاقة اليونان مع مصر علاقة تجارة وتعلُّم وتوافق.
وظهرت إمبراطورية الفرس في آسيا واتَّسعت فتوحاتها، ودخلت مصر تحت سيطرتها حتى اصطدم الفرس باليونان وانتصر الإسكندر الأكبر على >دارا<، ملك الفـرس، ودخل مصر وفلسطين والشام وطرد منها الفرس وأسَّس مدينة الإسكندرية 333 ق.م، وسرعان ما قامت أسرة البطالسة 305 ق.م، واتَّخذت عاصمتها الإسكندرية، التي أصبحت كعبة العلم ومركز التجارة العالمية، وأُولى مدن البحر الأبيض، وظلَّت مصر تتعامل مع اليونان اقتصاديًا وثقافيًا على مدى ثلاثة قرون، تأثَّرت خلالها الثقافة والفنون المصرية القديمة بمثيلاتها اليونانية. ولا يعني ذلك أن المصريين قد >تأغرقوا<، فالملاحظ أن المصريين تمسَّكوا بفنونهم وتقاليدهم الموروثة في العمارة والنحت والتصوير وسائر الصناعات الفنِّية، ونسب البطالسة أنفسهم إلى المصريين القدماء ،وانتحلوا الصفات المصرية ومارسوا العادات المصرية، ولهذا نرى المعابد الَّتي أقاموها في فيله وكوم أمبو وأدفو ودندره على الطراز المصري القديم. ولم يتخلَّ فنانو العصر البطليموسي المصريون عن أصل الفنون المصرية القديمة، ولم يخرجوا عن تقاليدها الموروثة، إلاّ أنهم أدخلوا عليها بعض التجديدات المقتبسة من الفنون اليونانية. وسمِّي هذا الفن المصري بالفن الهلنستي (أي اليوناني) وإن كان هذا الوصف يقصد العصر أكثر مما يصف الفن.
وكانت الزخارف والنقوش والتماثيل المصرية تجمع بين الصلابة وجمود الأوضاع والقيود الفنِّية التقليدية، وبين محاكاة الطبيعة وحرِّية التعبير ومرونة الأوضاع والخطوط اللَّيِّنة الانسيابية الَّتي يبرز منها الفن اليوناني. وقد ثار المصريون مرّات عديدة على حكَّامهم البطالسة، واستعان هؤلاء بحماية روما التي كانت حضارتها وليدة الحضارة اليونانية. وفي عام 300 قبل الميلاد صارت مصر تابعة لروما بعد انتصار أكتافيوس الروماني على أنطونيوس وزوجته كيلوباترة، آخر ملوك البطالسة. غير أن القائد الروماني المنتصر ما لبث أن تشبَّه بالمصريين، وتلقَّب بألقاب الملوك الفراعنة، استرضاءً لهم. ولم يُحدث احتلال الرومان لمصر أية تطوُّرات في الفنون المصرية، فحضارتهم الإغريقية الأصل كانت معروفة عند اليونانيين أنفسهم في مصر وسمِّي عصرهم: >اليوناني الروماني<. وظلَّت الفنون المصرية في ذلك العهد الجديد عصرية الطابع عليها سمة التجديد، أو (الموضة) اليوناني، وإن ظلَّت ملتزمة بالأساليب والقواعد والتقاليد المصرية. وفي عام 54م انتشرت المسيحية في مصر، وقاوم الرومان هذه النزعة الدينية بقسوة، ولكن الشعب المصري ازداد تمسُّكًا بمسيحيته وإقبالاً عليها والتفافًا حول بطاركته، تحدِّيًا للحكَّام الرومان وغطرستهم، واستهانة ببطشهم حتى عام 384م، الذي سمّي عام الشهداء، واعتبروها بداية تقويمهم القبطي.
وبعد ذلك بخمسة عشر عامًا أصبحت المسيحية الدين الرسمي للبلاد. وفي هذا العصر كره المصريون الأقباط محاكاة الطبيعة وتقليدها بدقَّة، كراهيتهم لعبادة الأوثان ولحكَّامهم، ولذلك نرى الفن القبطي في العصر الجديد ينحو اتجاه الرسوم الرمزية للأشخاص ورسم الحيوانات محوّرة، فمالت خطوطهم إلى الهندسة وزخارفها. ويعني ذلك استقلال الفن القبطي عن اليوناني الروماني، واختار فنانو العصر القبطي ورقة العنب كعنصر زخرفي وكذلك سعف النخيل وأهملوا ورقة الأكانتوس الرومانية. وعلى أي حال نجد الفن القبطي متمسِّكًا بأصوله القديمة، معتمدًا على قواعدها الصّلبة الجامدة الموروثة عن الفن الفرعوني، وإن كان قد أُدخل عليها بعض خصائص الفن اليوناني الروماني حتَّى تساير فنون عصرها. ولم تكن للمسلمين فنون خاصَّة بهم في عهد النبي (صلّى الله عليه وسلّم) أو أيام الخلفاء الراشدين، وذلك لميلهم إلى التقشف وبساطة العيش، فكانت مساكنهم متواضعة، كما اكتفوا بتشييد أماكن بسيطة للعبادة، استخدموا في بنائها مواد بدائية، فكان مسجد المدينة، عبارة عن مساحة مربَّعة تحيط بها جدران من الطين والحجر، مسقوفة في جزء منها بسعف النخيل المغطَّى بطبقة من الطين، ويرتكز السقف على عدد من جذوع النخيل. وحينما فتح العرب سوريا والعراق ومصر وإيران احتكَّوا بفنون تلك البلاد وحضاراتها فتأثَّروا بها وأثَّروا فيها. وبدأ في العصر الأموي أسلوب فني إسلامي ينمو تدريجيًا متأثِّرًا بالفن البيزنطي والساساني، وسرعان ما صار فنًا إسلاميًا خالصًا. لقد اهتمَّ الحكَّام المسلمون بعد ذلك بفنون البلاد التي فتحوها، والتي كانت بعضها مثل فارس ومصر، مراكز حضارات عريقة ازدهرت فنونها قبل العصر الإسلامي، لكن الرؤية الإسلامية صهرت تلك الفنون في الدول التي انضمَّت إلى الإسلام حديثًا، فنتجت عن ذلك أساليب فنِّية جديدة تختلف عن الفنون المحلية الأصلية لتلك البلدان.
الهوامش:-
(1) ورد اللفظ في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الجمع في سورة الرحمن ” ذواتا أفنان * فبأي آلاء ربكما تكذبان” ولقد ورد في معجم مفردات ألفاظ القرآن للعلامة الراغب الأصفهاني. فن: الفننُ الغصنُ الغصن الورق وجمعه أفنان ويقال ذلك للنوع من الشيئ وجمعه فنون.
(2) من الشواهد الأثرية على استمرار ورق5 البردي واستخدامه في العصر الإسلامي وحتى قرابة منتصف القرن 14م رسالة من ورق البردي باللغة العربية عثر عليها أثناء أعمال التنقيب التي قامت بها هيئة الآثار المصرية في منطقة قصر إبريم في النوبة المصرية سنة 1970م. وتعد هذه الرسالة البردية من اكبر البرديات العربية المعروفة حتى الىن. تتألف البردية من 12 قطعة ملصقة إلى بعضها بطول 264,5 سم وعرض 53,5 سم والنص المكتوب عليها يتألف من 69 سطراً، ومؤرخة 141 هـ (758) م. البردية مكتوبة بالخط الكوفي البسيط المتطور بالحبر وفيها يشكو الوالي العباسي على مصر موسى بن كعب (15 ربيع الثاني 141هـ - 24 ذي القعدة 141هـ) إلى ملك النوبة قرياقوس من عدم إلتازم بلاد النوبة بالعهود والمواثيق الموقعة بين البلدين ويطالبه بإعادة تاجر من أسوان اسمه سعد هرب إلى بلاد النوبة بأموال جمعها من المسلمين في أسوان ليتاجر لهم فيها، كما يطالبه بإطلاق سراح تاجر آخر احتجزه النوبيون في بلادهم بما كان معه من تجارة وأموال، ويطالبه بدفع دية التاجر إن كان قد قتل وإعادة ما كان معه من تجارة وأموال وينهي رسالته متوعداً . . . “إن كنتم تحبون أن نفي لكم بعهدنا فلا تؤخر من ذلك شيئاً وعجل وإن أنت لم تمتثل رأيت فيما بيني وبينكم رأياً إن شاء الله ….”
وقد نقلت البردية من متحف الفن الإسلامي إلى متحف النوبة بأسوان لتعرض فيه منذ سنة 1997م.(محاضرة الفن الإسلامي للدكتور فاروق عسكر بالمجمع الثقافي بتاريخ 2000/12/10). (3) الزخرفة اسم جامع ومرادف للزينة، ويقع في البيت “بيت مزخرف” وفي الهيئة الإنسانية “تزخرف الرجل” وفي المصنوعات النفيسة – مذاهب الحسن د. شربل داغر – المركز الثقافي العربي.
(4) مشكلة الفن تأليف الدكتور / زكريا إبراهيم – مشكلات فلسفية.
(5) تاريخ الحضارة المصرية – العصر الفرعوني – المجلد الأول – تأليف مجموعة من العلماء – مكتبة النهضة المصرية.
(6) المصدر السابق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق