محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

الجمعة، ديسمبر 03، 2010

الفضيلة الناقصة


نثر العشب المقدس

بوتتشللي. مينرفا بالاس تروض القنطور. مت�ف أوفتزي. 
في إحدى ليالي الصيف، عندما اكتمل القمر وانعكست صورته على ضفاف نهر التايمز، تذكرت مصير “أراخني” التي تطاولت على ”مينرفا([1])” وادّعت أنها لا تقل مهارة في الغزل عنها، فتنكرت مينرفا على هيئة عجوز وتوكأت على ظلال حياتها وبادرت أراخني قائلة: اسمعي نصيحتي، واحرصي على ما شئت أن يقال عنك إنك أكثر البشر مهارة في غزل الصوف، ولكن لا تقارني نفسك في هذا الصدد بالآلهة، فحدقت أراخني في المرأة العجوز بنظرة غاضبة قائلة: لا تخالي أن تحذيراتك سوف يكون لها أثر في نفسي. لماذا لا تأتيني مينرفا، ولماذا تتهرب من مباراتي؟ وحينئذ صاحت الآلهة: ها هي ذي الآلهة أتت.
وخلعت عن نفسها صورة المرأة العجوز فتباريا في النسج، ونسجت أراخني صوراً تمثل نزوات الآلهة الآثمة، ولم تستطع مينرفا اكتشاف أي عيب في اللوحة، فتملَّكها الغضب لنجاح منافستها، ومزقت اللوحة ثم أمسكت بجذع شجرة وهوت بها على رأس أراخني، التي لم تحتمل تلك الإهانة فلفَّت حول عنقها حبلاً شنقت به نفسها، ولما رأتها مينرفا على تلك الهيئة أشفقت عليها وقالت لها: “لِتَبْقِيَ حية، ولكن معلقة في الهواء إلى الأبد([2])“.
ثم أخذت في الابتعاد بعد أن نثرت على أراخني عصارة عشب مقدس. وما كادت عصارة هذا العشب السام تلامسها حتى تساقط شعرها وضمر أنفها وأذناها ورأسها وبقية أطرافها، وبرزت لها أصابع دقيقة في جبينها بدلاً من ساقيها، ولم يبق منها إلا بطنها ينساب منه الخيط، وها هي تواصل نسيجها كما كانت تفعل من قبل، وإذ هي تصبح عنكبوتاً. هل ما فعلته الآلهة بحق أراخني خيراً أم شراً؟ وهل الفعل الجميل جميل لأنه محبوب من الآلهة، أم هو محبوب منها لأنه جميل؟ وهل ما فعلته مينرفا نابع من أحاسيسها، أم هو تصرف مصدره العقل؟ وما الذي طغى على الآخر في هذا التصرف: العقل أم الوجدان؟ ولأيَهما نلجأ عندما تختلط علينا الأمور، إلى العقل أم إلى الإحساس؟ فإذا تنازعنا حول الأثقل والأخف لجأنا إلى الميزان، وإذا تنازعنا حول الطويل والقصير لجأنا إلى المتر للقياس، وإذا تنازعنا حول الفعل، هل هو خير أم شرّ، جميل أم قبيح فلمن نلجأ؟يتحول الإنسان إلى حيوان عندما تتحكم غرائزه بعقله، ويصبح صارماً إذا طغى عقله على عواطفه، فيصير جسداً بلا قلب. وإذا أحب الإنسان بجنون فسيفقد ذلك التوازن، مما قد يعرضه إلى سقطات سيئة في المفهوم الاجتماعي العام، ولكنها بريئة في عفويتها وحميميتها. إنها العودة إلى الطبيعة، إلى الحيوان الجميل داخل كل منا.وقديماً سأل “اسبينوزا”: هل نرغب في الأشياء لأنها خيراً في ذاتها، أم أننا نقتصر على تمجيدها وتبريرها إذ نسمي موضوعها “خيراً”؟.
 منيرفا تنزل العقاب بآراخني
منيرفا تنزل العقاب بآراخني
فالخير والجمال موجودان، وعلينا أن ننظر بإمعان إلى كل ما من حولنا وإلى كل تصرفاتنا، فكثير منها جميل، وخاصة الفنون المختلفة، ومنها الإغريقي على سبيل المثال بأشكاله كافة من مسرحيات “يوربيديس” و”سوفو كوليس” و”ارستوفانيس” وملاحم “هوميروس” التي ما زالت تمنحنا متعة فنية، وتعتبر نموذجاً يصعب بلوغه في الأعمال الحديثة، وما زالت تلعب دوراً في البناء الفكري والروحي لأجيالنا الحالية، ويصعب ربطها بـ “الحياة الاجتماعية” في عصرنا الحالي. ولكنها في حقيقة الأمر تجسيد لوعي الأديب أو الفنان بالعالم الخارجي في ذلك العصر.إن وظيفة الفن هي المحافظة على صدق وحقيقة الانعكاس عن الواقع، سواء أكان انعكاساً للطبيعة أم للمشاعر والوجدان، أم انعكاساً للفكر من خلال الصياغة الفنية، وليس المقصود بالانعكاس هنا “ألنسخ الفوتوغرافي”، وإنما ذلك الذي يحتوي على الروح والوجدان، والإخلاص في استيعاب الواقع الموضوعي، والإخلاص الجارف لإعادة صياغته في مضمون جديد من خلال الأشكال الأدبية المتعددة، مضيفاً الجمال البريء القادر على تطهير النفس البشرية من الدنس اللصيق بها منذ ألم الولادة. والواقع مليء بالحقائق التي يُدخلها الفنان في ذهنه فيحوّلها من المحدود إلى اللاَّنهائي، ويُعيد إخراجها بصور شتّى، مضيفاً إليها من روحه وإحساسه، جاعلاً الاعتقاد بديلاً للحقيقة… وذلك هو الإبداع.
 لقد كان أفلاطون يعتبر الفن محاكاة للجمال، ويُرجع المتعة الجمالية إلى الانسجام بين شكل العمل الفني وجمال الفكرة، فالمضمون الجمالي للعمل الفني يكمن في جمال التعبير وقوة التأثير.وما الجميل والقبيح والمضحك والمأساوي إلا انعكاس لعلاقات الناس مع بعضهم بعضاً([3])، ولتفاعلاتهم الاجتماعية ولعلاقتهم مع الطبيعة. فعندما تستمتع بمشاهدة مكان جميل خلال تجوالك، يصبح المكان أكثر جمالاً إذا كانت محبوبتك بجوارك، ويزداد إبهاراً إذا كان الموضوع – محل الحديث – شيقاً.وإذا قفزنا إلى قلب الدوامة وتسلحنا بالمنطق وسألنا أنفسنا: ما هو الجمال، وهل هو ذاتي أم موضوعي، أم أنه غير موجود إلا في أذهاننا؟ لا توجد إجابة عن التساؤلات الكبرى، ولكن المحاولات تقودنا إلى تلمس الجمال من خلال عدة مستويات، فنشعر به من خلال القيم الحسية التي تتولد لدينا لدى رؤية الألوان الجميلة- كالأحمر والأسود – ولدى سماعنا لأصوات البلابل ومشاهدتنا للرخام المنحوت وكل ما يجذب إليه البصر واللمس.ونشعر بالجمال أيضاً من خلال القيم الشكلية لدى مشاهدتنا لواجهة مبنى جميل والخطوط والتموجات البديعة التي تخلفها الرياح في رمال الصحراء. ونشعر بالجمال من خلال القيم الارتباطية، وهي بلا شك أجمل القيم وأسماها. فلدى سماعنا لمقطوعة موسيقية معينة سنطرب أشد الطرب إذا كانت مرتبطة في ذهننا بمناسبة سعيدة في الماضي…. “ما زال الرداء ذو اللون البنفسجي يغمرني بالفرح بمجرد رؤيته، لأنه يستدعي أحداثاً جميلة، متجاوزاً المغالطات الوجدانية.
 فذلك الرداء حوَّل السماء الغاضبة إلى أخرى وادعة، والبحر الهائج إلى آخر متدفق رقة وحناناً، وبدا النسيم يداعب شعرها وغرفت في قوس قزح”…البشر ميّالون إلى الكذب، ونحن نتألم إذا كنا صادقين، فمن منا أعلن عن حقيقة علاقاته الاجتماعية التي يصفها المجتمع بعدم الشرعية؟ ومن منا لم يخن زوجه ولو بالتفكير؟ ومن منا لم يشعر بالظلمة والسواد في داخله؟ ومن منا أعرب عن حقيقة مشاعره تجاه الآخرين؟ يأتي القبح من الداخل إلى الخارج، من الصدق إلى الكذب، من الجمال إلى نقيضه، فنغرق أنفسنا في أشكال الفنون المختلفة لنتطهر من جهة ولنستمد القوة ونحيا بالكذب الصادق من جهة أخرى!. . . “كم هو رائع وجميل هذا الوجه”، تلك العبارة التي يتفوَّه بها أي إنسان عندما يرى ما يدهشه، نجد نقيضها لذات الوجه من أناس آخرين. فالجمال نسبي، وما هو حسن لديك قد يكون سيئاً لدى غيرك، فما تراه أمامك جميلاً يستمد جماله مما أبعد من الشكل، كما المضمون والجوهر. فالأخلاق والمعرفة تظهر في الحقيقة الجمالية (الشكل)، والأخلاق هنا هي النظم الأخلاقية التي تحكم سلوك كلٍّ منا بغضِّ النظر عن اتساقها مع القيم الغيبية أم لا.وتنسحب النسبية أيضاً على الانفعالات، فهي متغيرة من شخص إلى آخر ومن لحظة إلى أخرى لدى الشخص الواحد، وتكون أكثر وضوحاً لدى الإناث نتيجة للتغيرات الهرمونية التي تتم في الجسم الأنثوي. ويترتب على ذلك أن التقويمات الأخلاقية بدورها متغيرة وشخصية، فما يبعث الفرح في شخص معين قد يثير شجون شخص آخر، وما يراه الأول أخلاقياً قد لا يشاطره الآخر الرأي ذاته.إن الرؤية الواقعية للأشياء تجعلنا لا نرى الجمال. فالجميل في الواقع يظهر جميلاً بسبب تدخل خيالنا وعواطفنا التي توسِّع أبعاد الشيء وترفعه إلى المدى الرحب، والجميل هو ما نراه ونفهمه ونحسه ونرغبه، وهو الذي يبعث فينا الفرح ويبعد عنا الحزن. والجنة هي الجميل المعشوق الذي يتحول إلى نار وقبح عندما يبعث فينا الحزن والأسى، فمن يمنح أدخَلنا الجنة؛ ومن يمنع أدخَلنا النار، وضللنا الطريق ما بين الجنة والنار.ويتحسس الإنسان الجمال من خلال حواسه – خاصة في مجال الرؤية والسمع – ولا يمكن إدراك محتوى الشيء الجميل وجوهره بالبصر أو السمع، وإنما بالتفكير الإنساني القادر على النفاذ إلى قلب المعرفة.فحبيبتك جميلة لأنك نفذت إلى داخلها بفكرك وقلبك، وعرفت مكنوناتها وقيمها الداخلية، التي لا يراها غيرك من خلال شكلها الخارجي، والتي قد تبدو على غير تلك الدرجة من الجمال لدى الآخرين.ولا يستقيم الحديث عن الجمال دون التطرق إلى الألوان، فمن يحسّ باللون يشعر بالجمال.
 بوتتشللي. مينرفا بالاس تروض القنطور. مت�ف أوفتزي.
بوتتشللي. مينرفا بالاس تروض القنطور. متحف أوفتزي.
والخاصية الجمالية للون متعلقة بالمضمون الذي يعكسه الشكل، فلا نستطيع أن نحسّ بجمال اللون إلا بعد أن نحس بمضمونه وأهميته. ويزداد الشعور بالجمال في اللحظات الحميمية التي تتداخل فيها الألوان حيث لا يمكن التمييز ما بين الأسود والأبيض وما بين الواقع والخيال. فمن يمتلك العقل الخالص يستحيل عليه تعريف اللون الأحمر، ومن يمتلك الخيال الخصب يستطيع وصف ذلك اللون على صعوبته.يلعب الفن دوراً رئيساً في تنمية ذوق الإنسان، فيُطوِّر إحساسه ويجعله أكثر قدرة على تحديد الجميل والقبيح، والخير والشر، وينعكس ذلك على محيطه المادي فيُبدع في اختيار ملابسه وأثاث منزله، وترتقي تصرفاته. كما يسهم الفن في صقل مشاعر الإنسان، فنحن نتعاطف مع أحداث العمل الفني المرئي أو المسموع ونعيش أحاسيس الأبطال، ونتألم للمصير الذي يؤولون إليه، ونحمد الله فنحن أفضل من البطل الذي تصرعه الآلهة في المآسي، ونشعر بتطهُّر أنفسنا من التشاؤم ويكبر فينا الأمل. ولدى سماعنا للموسيقى ينبعث داخلنا التفاؤل بالحياة ونتطهَّر بالأسى والحزن والعذاب والألم. وقد حدد أرسطو وظيفة اجتماعية مهمة للفن، فهو في رأيه يخدم في النهاية الراحة والتسلية، ويُطهِّر انفعالات معينة ويقدم التعاليم الأخلاقية.ونعتقد أن عصر الإنسان المتحضِّر لم يبدأ بعد، وأن الصراعات في أي مجتمع تتراجع بارتقاء مرتبة الفنون فيه. فبالنظر إلى تفاصيل خريطة العالم نجد أشلاء الجثث تملأ المكان، وكذلك صراعات البشر والحروب. وما زالت رائحة العفن تنبعث من الموتى فيما الإنسان ملطخ بوحل الخطايا والدماء تلوث يديه. ولا نستطيع أن نكتم دهشتنا لدى رؤيتنا لمشاهد الحروب العبثية التي تجتاح كوكبنا وتجعل الإنسان بلا مأوى، من أجل حفنة دولارات، أو من أجل نفوذ زائل لا محالة. وما لم تُحل مشكلة البشرية، بإحلال العدالة الاجتماعية وتقليل الهوة ما بين الأغنياء والفقراء ومنع ترسيخ الحدود القائمة بين الحضارات كفروق بين الرفاهية والمعاناة والتقدم والتخلف، سنجد المجتمع البشري في طريقه إلى الانحلال والانفلات من القيم الأخلاقية والنظم الاجتماعية كافة التي تربطه. وما لم نمتلك رؤية نظرية لإعادة صياغة العالم من جديد واضعين نصب أعيننا العدالة الاجتماعية والحرية كأهداف ينبغي الوصول إليها، فسنصطدم بالجدار، والأولى في هذه الحالة أن يقضي الإنسان حياته في مراقبة النجوم. 


([1])  إلهة الحكمة في الأساطير الإغريقية ويُقال أنها انبثقت كاملة من رأس “زيوس” عندما أُصيب بصداع مؤلم فشق رأسه “فلكان” فظهرت مينرفا.
([2])  مسخ الكائنات – أوفيد.
([3])  مذاهب الحسن – الجمعية الملكية للفنون الجميلة – شربل داغر – الأردن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق