تبدو الأشياء على غير حقيقتها
لم يكن قد مرَّ وقت طويل، حين حطَّت بنا الطائرة في مطار القاهرة، وقد استقبلنا أهلها بالترحاب. وآثرنا الذهاب إلى حيث لا يذهب الآخرون.. فقصدنا في اليوم التالي لوصولنا قبر الإمام الشافعي، للصلاة على روحه والدعاء له.وقد وُلد الشافعي في غزة بفلسطين العام 767ميلادية، وعادت به أمه بعد ولادته بعامين إلى مكة، فتنقل ما بين الحجاز ومصر والعراق، وتوفي في مصر العام 820 ميلادية. ويُعد الشافعي أول من ألَّف في علم أصول الفقه، ولقد انتشر مذهبه في الحجاز والعراق ومصر وسوريا وفلسطين وحضرموت، وهو المذهب الغالب في أندونيسيا وسريلانكا ولدى مسلمي الفلبين والهند وأستراليا.
لدى دخولنا إلى جامع الإمام الشافعي، صادفنا المسؤول عن الجامع، الذي يدَّعي بأنه من سلالة الأشراف، وبأن نسبه يرجع إلى سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد أمدَّنا ببعض المعلومات التي لا تنمُّ عن سعة إطلاع.ونعتقد بأن الجهود المبذولة في وطننا الحبيب مصر، ينبغي أن تعطي اهتماماً أكبر بالسياحة الدينية، ولقد فوجئت بأن مسجد الإمام الشافعي يضم أيضاً قبر الملكة شمس والملك العادل، وهو شقيق صلاح الدين الأيوبي (1145 - 1218ميلادية)، وكان نائب السلطنة بمصر عن أخيه صلاح الدين، وقد استقلَّ بحكم مصر العام 1199م وضم إليها بلاد الشام وأرمينيا واليمن، وعندما وطَّد حكمه قسَّم البلاد بين أولاده، وكان كثير الجهاد وحضر مع أخيه معظم الحروب مع الفرنجة.
لم يكن الانتقال من حي الغورية في القاهرة الفاطمية، بما يضم من جوامع تشمل العصور الفاطمية والعباسية وما تلاها، بالأمر السهل علينا. غمرتني السعادة لدى مشاهدتي “باب الفتوح”، الذي كانت تخرج منه الجيوش لمحاربة الأعداء وفتح المدن الجديدة، وبعده قليلاً “باب النصر” الذي كانت تدخل منه الجيوش المنتصرة إلى القاهرة. وعلى رغم كثرة أكياس البصل والثوم، التي تراها على يمينك وعلى يسارك وما قبل البوابتين، فإن الحضور التاريخي يطغى على كل ما سواه، فهنا علق طومانباي و”وُسط” أي أعدم بأن ضرب بالسيف في وسطه فقسمه إلى نصفين. وهنا أيضاً علقت ضحكات النساء مجلجلة فرحة بانتصارات المسلمين. وفي المكان نفسه ذرفت شجرة الدر دموعها مرتين، في الأولى فرحاً عندما قتلت عز الدين ايبك وتولت الحكم، وفي الثانية، عندما قتلتها أم علي فكانت دموع الألم. مع كل خطوة في هذا المكان، يتراءى لك القادة والأبطال وصناع التاريخ، الذين مروا من قبلك، فالمكان يعبق برائحة الزمن الغابر.
ولا أخفي أنني طالما شعرت بالسعادة، وأنا أتجول في المكان، ومن حولي يسير الناس، بعضهم يتجه نحو جامع الحاكم بأمر الله، والبعض الآخر نحو سيدنا الحسين.. كم شهد هذا السور من أفراح وأتراح.وما أن عدنا أدراجنا إلى نهاية شارع المعز لدين الله الفاطمي، حتى زكمت أنوفنا رائحة الشواء المختلطة بدخان الشيشة العابقة في كل مكان. لم يكن أمامنا سوى الولوج إلى أقرب مطعم لتناول بعض المشاوي في هذه المنطقة الشعبية، التي تطلق على الماء المتبقي من السّلطة التي أُحسن تتبيلها اسم “الويسكي” تذكّرنا بالخليفة الذي كان يرمي لأمرائه قطع اللحم من صدر المائدة، ليدل على أنه مركز القوة والسلطة، وأنه هو الذي يطعمهم، وتلك كانت عادة الخلفاء الفاطميين.لم نشعر بحرارة الجو قبل جلوسنا في “مقهى الفيشاوي” الشهير، حيث احتسينا الشاي بالنعناع. كان دخان الشيشة يخرج من أنوفنا مكوناً دوائر لا متناهية سرعان ما تتفرق في هواء القاهرة الذي يتناقله ما بين شهيق وزفير 15 مليون نسمة تحت وطأة الزحام والحرارة المرتفعة نهاراً والبرودة الخفيفة ليلاً. ولم يكن من السهل علينا اكتشاف مغيب الشمس، فالأنوار المتلألئة المعكوسة على صفحة النيل كانت تكون شموساً زرقاً وحمراً سرعان ما تنير ليل القاهرة الذي لا ينتهي.
مضت الساعات والأيام، ولم نشعر بمرور الوقت، وفجأة وجدنا أنفسنا في المطار متجهين إلى الماضي، إلى أسوان، حيث مدينة الشرق المشرقة. عند سلم الطائرة قابلنا “حسنين” المندوب السياحي، مرحباً، وقد لفحت سحنته الشمس الحارقة، وعلقت الابتسامة على وجهه، في بلاد لا تعرف التجهم.ركبنا قارباً صغيراً، اختار له صاحبه اسماً غير عادي “مكرونة” يقوده شخص من أهالي النوبة يدعى ديشون، يرتدي جلباباً أزرق ويعتمر عمامة بيضاء.
.
مررنا على مقبرة البيجوم آغا خان، المقامة على هضبة تطل على النيل، وبجوارها منزل أرملته التي كانت تضع على قبره وردة كل يوم اثنين إلى أن توفاها الله.وصلنا إلى جزيرة “سهيل” الغنية بالكتابات الفرعونية على صخور الغرانيت، ولعل أهمها تلك التـي نُقشت عليهـا ذكـرى أحد فراعنة ذلك الزمان، الـذي احتفل بانتهاء 7 سنوات عجاف بتقديم القرابين للإله “خنوم”. احتسينا الشاي الصعيدي على القارب في طريق عودتنا إلى الفندق، ومررنا بمنطقة مملوءة بالدوامات المائية التي تُشعرك بالرهبة لدى رؤيتها. فالمياه فيها تدور حول نفسها بقوة مندفعة إلى الأسفل، وكأن هناك شيئاً مجهولاً يجذبها إلى الأعمق. ومن هناك انطلقنا بالسيارة لزيارة السد العالي. وصلنا إلى المكان، فمضينا في شارع وإذا به جسم السد الذي يبلغ ارتفاعه 111 متراً، وقد تكونت خلفه “بحيرة ناصر”، وهي أكبر بحيرة صناعية في العالم تغطي مساحتها 500 كلم مربع وتبلغ سعة تخزينها 169 مليون متر مكعب من المياه.
وشارك في بناء السد نحو 35 ألف مهندس وعامل توفي منهم 450 شخصاً أثناء العمل وبسببه، وبلغ طوله 3800م، وحجمه أكبر من هرم خوفو 17 مرة.وفي صباح اليوم التالي انطلقنا نحو جزيرة “أجيلكا” حيث معبد “فيلة” الذي نُقل إلى هناك لئلا تغمره مياه بحيرة ناصر، مجموعة ضخمة من المعابد التي تدل نقوشها على أن بطليموس الثاني أقام الأجزاء الداخلية منها وزينها بالمناظر بدءاً من الحجرة الأولى حتى العاشرة.
على مدخل الحجرة الأولى نشاهد الملك بطليموس الثاني تتبعه الآلهة “بوتو” وهو يتقبل رمز الحياة من “تفتوت” ويسير مسرعاً ومعه الدف والمجداف باتجاه “ايزيس” سيدة معبد الفيلة. على الجانب الأيمن من الحجرة يشاهد الملك تتبعه الآلهة “نخبيت” ويتسلم رمز الحياة من الآلهة “سخمت” ونمر في بقية الحجرات وهي تتماثل بالنسبة إلينا من حيث امتلاؤها بالنقوش والرسوم التي تعبّر عن الحياة في تلك الفترة، إلى أن نصل في نهاية المعبد إلى قدس الأقداس، وهي غرفة صغيرة مُظلمة إلى حد ما كان يعيش فيها الكاهن الفرعوني.
.
استيقظنا في اليوم التالي لنجد أنفسنا وسط النيل والباخرة “راداميس” تسير بنا من الأقصر في اتجاه معبد “كوم امبو” الذي وصلناه بعد ساعة ونصف الساعة، وغادرنا متجهين إلى المعبد الذي بُني في العصر اليوناني - الروماني، بين العامين 181 و 219م على أنقاض معبد من الأسرة “18″ وقد كرس المكان لعبادة الإله الفرعوني “سويك” وهو في هيئة تمساح، والإله “حورس” في هيئة صقر.. معبدان في هيئة معبد واحد، يتكون من بوابة نلج عبرها إلى الفناء المفتوح وصالة الأعمدة التي غطيت بالنقوش والكتابات الفرعونية، وثلاث ردهات تقود إلى قدس الأقداس، وقد أضيفت إليها أجزاء عدة، مثل مقصورة “حتحور” وبيت الولادة وبوابة “بطليموس دينوسس”.وتحيط بالمعبد بحيرة التماسيح التي كانت تعجّ بها في العصور الغابرة، وقد حنط قدماء المصريين بعضها ووضعوها في غرفة صغيرة إلى اليمين عقب الدخول إلى المعبد الذي يضم أيضاً بئراً كبيرة خصصت لمعرفة مستوى منسوب مياه النيل، وعلى بعض جدرانه نقوش للأدوات الطبية والجراحية، إذ كان المعبد مخصصاً للاستشفاء. خلال تجولنا، صادفنا “ست أبوها” وهي امرأة مصرية ترتدي الزي الصعيدي التقليدي، وإلى جانبها أطفالها يفترشون الأرض ويتناولون طعامهم، بينما يعلو صوت المرشد السياحي من حولها معدداً مآثر الحضارة المصرية وفضلها على الإنسانية.استغرقت الزيارة ساعة ونصف الساعة، عدنا بعدها إلى الباخرة النيلية التي حملتنا إلى أدفو.. مناظر لا تنسى، على ضفة النهر.. خضرة ومزروعات على مدى البصر، فلاحون مع دوابهم، نساء يغسلن الملابس، مراكب صغيرة لصيد الأسماك، بيوت طيينية جميلة تتوزع في الجوار محاطة بأشجار النخيل، وإلى جانبها أخرى اسمنتية تبدو قبيحة وسط الطبيعة الخلابة.
.
وعلى حافة النهر كان رجل يمتطي حماره ويسير في عكس اتجاه الزمن، وبعض الصبية يسبحون قرب حافة النهر ويلوحون لنا بأيديهم ترحيباً وغبطة. تتحرك بنا الباخرة بسكينة وبلا ضجيج..مشاهد من سينما الحياة تمر أمام ناظريك وأنت الثابت في مكانك، تهرب منك اللحظة إلى الأخرى، وها أنت مرة ثانية تبدأ العودة إلى زمنك. عند مدخل أدفو التي وصلناها بعد أكثر من ثلاث ساعات، نكتشف البيوت الاسمنتية على ضفة النهر، وقد أخذت تلتهم الأراضي الزراعية وتشوه منظر الريف الجميل. وصلنا إلى معبد أدفو، الذي يعني اسمه “القتال والاقتتال” وقد بُني بين العامين (237 و 57ق.م) على أنقاض معبد فرعوني قديم. وكان العالم الفرنسي “ميريت” اكتشفه في العام 1852، وهو يعج بالرسوم الجميلة التي لا يزال بعضها يحتفظ بألوانه، وفي جداره فتحات كانت ترتفع الأعلام من خلالها عند الانتصار.
.
ويتميز المعبد بكثرة الرسوم الممثلة للشمس المجنحة، وهي رمز الانتصار، وقد علت رؤوس الفراعنة والملوك رسوم ثعابين الكوبرا التي استخدمت لحماية العرش والملك، وقد عُرف عنها قتالها بشراسة دفاعاً عن أبنائها. وانتحرت كليوباترا بتقريب الكوبرا منها حتى تلدغها فتموت ميتة مقدسة.تحرك المركب الساعة الخامسة والنصف متجهاً من أدفو إلى الأقصر التي وصلناها عند الصباح انتظمنا في مجموعات وصعدنا الحافلات السياحية التي حملتنا إلى معبد “آمون رع” المسمى أيضاً “الكرنك” ويتألف من محراب ضخم أعد لحفظ تماثيل الآلهة “آمون” وعائلتها ويُعرف باسم “قدس الأقداس” يتبعه أكثر من بهو يتخلل كلاً منها قليل من النور، يليها فناء مكشوف يغمره ضوء النهار ويمتاز هذا المعبد بضخامة أعمدته وبكثرة النقوش عليها، وقد أقام الملك “ستي الأول” مسلتين في المعبد، لا تزال أحداهما باقية حتى اليوم، ويمر في واجهة المعبد صفان من التماثيل التي أقامها “رمسيس الثاني” على هيئة أبوالهول، لكل منها رأس كبش وجسم أسد ويسمى طريق الكباش. وإلى جانب المعبد توجد البحيرة المقدسة، وهي مخصصة لتطهير الكهنة وترمز للمحيط الأزلي في بداية الخليقة، وتبلغ مساحتها 80 × 40م، وربما أنشأها تحوتمس الثالث. وهي محاطة بسور ضخم يتصل بالصرح السابع.
. أكملنا جولتنا في الكرنك ومعبد الأقصر، وذهبنا إلى السوق الشعبي للمدينة، فوجدناه يعج بالتوابل والحبوب، والتمور الناشفة المطحونة، يهمس البائع بأذنك بأنها أقوى في مفعولها من “الفياغرا” اكتشفها الفراعنة وما زالت مستخدمة حتى الآن. من أحد الأزقة يطل علينا برأسه شاب صغير، يتلفت حوله، يميناً ويساراً ممسكاً بتمثال للإله “امنحوتب” يحاول أن يخفيه في تلابيب جلابيته، يحدثنا بصوت خافت: “إن هذا التمثال أصلي، وجدته خلال اللعب مع أصدقائي وكان مدفوناً في الأرض وإلى جانبه قطة سوداء ميتة. سوف أبيعه لكم بمبلغ مئة جنيه فقط”. ويضيف أنه توسم الخير بنا ولن نشي به، فذهبت معه إلى زاوية الشارع، وفي مدخل إحدى البنايات المظلمة تبادلنا التمثال بالمال وأنا على يقين بأنه لم يمض على صنعه أسبوعان، ولكنها الحياة بجمالها وخباياها تدفعك لتكمل المشهد الذي أنت جزء منه.
غادرنا القاهرة بعد عشرة أيام من وصولنا إليها، متَّجهين إلى اسطنبول في تركيا. وبعد التجوال بين أروقة اسطنبول وزيارة آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد، أقلتنا السيارة إلى أنقرة، التي وصلناها بعد خمس ساعات. تناولنا الغداء في هذه المدينة وعزمنا التوجُّه إلى مدينة Konyo كونيا. والطريق ما بين أنقرة وكونيا تحيط به سلسلة من التلال والهضاب من الجهتين. كان جدار الصمت يحيط بنا وبالمكان، وكأن للوهم علامات تحطِّم جدار الصمت على أبواب كونيا. فإذا بالأمطار والرعد والبرق تحاصرنا من كل جانب، وكأننا انتقلنا من عالم إلى آخر. دخلنا المدينة التي تعجُّ بعربات “الترام” ذات اللون الفستقي، وسيارات الأجرة تملأ المكان بلونها الأصفر الداكن.
.
دخلنا الجامع ففوجئنا بضريح مولانا جلال الدين الرومي الكبير، تعلوه عمامته الضخمة. ويضم المكان 31 تابوتاً في منظر مهيب يجمع أبناءه وأقرباءه والتابعين المخلصين، ويحتوي المسجد آثاراً كثيرة، منها مسبحتان تضم كل واحدة منها 990 حبة، بالإضافة إلى بعض النسخ من القرآن الكريم المزينة بالزخارف الإسلامية الدقيقة.
ولد مولانا جلال الدين الرومي في مدينة بلخ 406 هـ، والتقى بالصوفي شمس الدين تبريزي، وكان ذا أثر عظيم في حياته، وله الفضل في إقامة طريقة المولوية (الرقص على شكل دائري). وأهم مؤلفاته المثنوي: وهو ملحمة في ستة أجزاء تختلط فيها الحكايات مع الأساطير الفلسفة، وقصد منه تصوير المذاهب الصوفية وتفسيرها. وله ديوان شعر عنوانه: “فيه ما فيه”، ويظهر في شعره تنوَّع الخيالات وعمق العلوم ولمعان الفكر. وهو قد سبق الكثير من البشر في رؤيته حول التطور، وعبر عن رأيه بجرأة بالغة، فقال: أُرفع إلى مرتبة الحيوان، وأموت وأنا حيوان، ثم أبعث إنساناً. ثم أموت وأنا إنسان، ثم أعود إلى الحياة ملاكاً.. بل سأشرف على الملاك، فأغدو شيئاً لم تره عين إنسان.. ثم استحيل بعد ذلك عَدَماً عَدَما.
تذكرت كلماته هذه، وأنا واقف أمام قبره، وربما يكون ملاكاً على يميني أو يساري، فقرأت له الفاتحة، وغادرت الجامع قاصداً السيارة مُحاطاً بجدار الصمت. انطلقت السيارة كالسهم في اتجاه أنقرة، دون أي صوت. وفجأة يضرب البرق حاجز السكون فيحطمه، فتفتح السماء أبوابها من جديد لينهمر المطر بغزارة، وتضاء السماء بلمعات البرق، ويملأ المكان صوت الرعد، إلى أن غادرنا كونيا وأنا في حيرة من أمري.. أهو غضب السماء أم ترحيب مولانا... أحياناً تبدو الأشياء على غير حقيقتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق