في اليوم التالي لوفاة عبد الملك توجه عبد الرحمن إلى قصر الزاهرة وجلس كما يجلس الخلفاء ، ثم مالبث أن إستدعاه الخليفة هشام المؤيد للمثول أمامه ، فقلده الحجابة ، وخلع عليه الخلع السّلطانية ، وهرول إليه الأعيان وأكابر الدّولة في قصره بالزاهرة لمبايعته وتهنئته . وكان عبد الرحمن يُسمى منذ صغره باسم شنجول لأنه
كان حفيداً لسانشو غرسيه ملك نافار الذي أهدى ابنته للمنصور بن أبي عامر فتزوجها واعتنقت الإسلام وسمّاها المنصور بالاسم العربي ” عَبَده ” وحَسُن إسلامها وكانت من أحسن زوجاته دينا وذات حسب أصيل وأولد منها ولده عبد الرحمن وكانت أمه تدعوه منذ صغره باسم سنجول Sanchuelo تذكراً منها لأبيها سانشو ولأنه كان شــــديد الشبه بجده أشقر البشـــــــرة مثله بهيئة أفرنجية واضحة ، وكان لذلك أثره في انصراف أهل الأندلس عن محبته والتعاطف معه ، كما أنه ورث عن جده طموح الملوك في الوصول بسرعة إلى أعلى مراتب السّلطة والنفوذ والأبهة وعقد مجالس اللهو والشراب فابتعد الناس عنه . وعندما تولى الحكم كان فتى في الخامسة والعشرين من عمره ، وكان شاباً مغروراً مستهتراً سئ السلوك ينفق المال في غير موضعه الصحيح ويقضي معظم وقته في الشراب واللهو والمجون في صحبة الغواني وأســافل الصّحاب يخرج مجاهراً بالفسق والمجون. سار عبد الرحمن على نفس ماسار عليه أبيه المنصور وأخيه عبد الملك في الحجر على الخليفة هشام المؤيد وحجبه عن الناس ولكنه سلك خلاف أخيه وأبيه ونهج نهجاً جديداً في علاقته بالخليفة إذ أنه أكثر من الإتصال به ، وبالغ في إرضائه وارضاء حاشيته ، وكان عبد الرحمن يهدف من ذلك إلى توثيق علاقته بالخليفة وإلى تحقيق طموحاته الخطرة ونجح بالفعل في الحصول منه على ألقاب المُلك والخلافة بعد عشرة أيام فقط من توليه منصب الحجابة .كان عبد الرحمن شنجول تجيش نفسه بمشروع ضخم خطر وهو أن ينتزع ولاية عهد الأندلس من الخليفة هشام المؤيد ويقوم بأمر المسلمين من بعده ويقضي على مُلك بني أمية وينقل الخلافة إلى أسرة بني عامر. ذكر المؤرخون أن عبد الرحمن شنجول خرج مع الخليفة هشام يوم ربيع الأول سنة 399 هـ / 1008 م ، إلى قصر الزهراء وأقاما معاً يومين ، وفي اليوم الثالث أنتقل الخليفة هشام وبرفقته حاجبه شنجول إلى منية جعفر المجاوره ومعه أهله . وفي هذه الليلة خلا عبد الرحمن بالخليفة وأطال به الخلوة . وفي اليوم التالي الخامس عشر من ربيع الأول عند غروب الشمس خرج شنجول على الناس زاعماً أن الخليفة هشام وافق على توليه عهده دون بني عمه وذويه إذ ليس له ولد – أي هشام - يؤمل خلافته وخرج أصحابه عشية ذلك اليوم يذيعون على الناس الخبر ، مؤكدين أن الخليفة أختار شنجول ولياً للعهد . ولقد تناسى عبد الرحمن كيف أن أباه المنصور بالرغم مما كان عليه من قوة عسكرية تحميه وتحمي سلطاته ، نأى بنفسه عن التطلع إلى سلب الخلافة لنفسه لأنه كان يعرف أن ذلك ينطوي على أخطر العواقب لتعلق أهل الأندلس ببني أمية ، وأنه لم يتخذ ألقاب المُلك إلا بعد طول أناة وروية ، وكان حريصاً على الإبقاء على الخلافة دون تدخل وقد سَلَك ابنه عبد الملك مسلكه . ولكن عبد الرحمن غرته قوة السلطان ولم يشاور أحد .ومن ناحية أخرى أراد شنجول أن يشغل الناس بغزوة تُثبّت أركان دولته أمام أهل الأندلس أسوة بأبيه المنصور وأخيه عبد الملك وأخذ يعد العدة لغزو أراضي جليقية وفوض لإدارة شئون الدولة في غيابه ابن عم أبيه عبدالله ابن أبي عامر الذي كان يُعرف بين الناس باسم ” عسكلاجة “ . لم يضيع عبد الرحمن شـــــــــنجول وقتاً واندفع بجيشه صوب طليطلة ثم اخترق أراضي جليقية عبر حدود مملكة ليون ولكن الفونسو الخامس ملك ليون تحصن بقواته فوق رؤوس الجبال ، ولم يجد شــــــــــنجول سبيلاً لقتاله وسارع بالعودة على رأس جيشه إلى طليطلة ، ولكنه مالبث أن أتخذ طريقه إلى قرطبة عندما علم بوقوع ثورة فيها ضده. أساء عبد الرحمن إختيار توقيت غزوته ، فعندما غادر طليطلة في طريقه إلى جليقية كان المطر ينهمر بغزارة والبرد القارس يُهرأ أجساد جنوده وعندما دخل جبال جليقية فوجئ بفيضان الأنهار وتساقط الثلوج بغزارة ، فآثر العودة على الفور قبل أن يفاجئه الفونسو بجيشه من أعلا الجبال فيهلك قبل أن يهنأ بولاية العهد . وفور وصوله عائداً إلى طليطلة علم بحدوث إنقلاب ضده في قرطبة وأن الثوار استولوا على مدينة الزاهرة وسلبوا مابها من ذخائر وأضرموا في مبانيها النيران . فوقع الإضطراب في صفوف جيشه ولكنه عاد إلى قرطبة وقد تغيرت الأحوال ، وثار الناس من طول حكم الطغيان الذي فرضه بنو عامرعلى الأندلس ويستند دائماً على قوة عسكرية باطشة قوامها البربر والصقالبة ، وزادت كراهية الناس لبني عامر بعد إغتصاب عبد الرحمن شنجول ولاية العهد من بني أمية أصحاب الولاية الشرعية وأجج من مشاعر الكراهية لبني عامر واصبح الطريق ممهداً للثورة التي كان أهم مدبريها ” الذلفاء ” والدة عبد الملك بن المنصور وكانت واثقة أن ابنها عبد الملك قتل بالسم على يد أخيه عبد الرحمن وكانت تنتهز كل فرصة للإنتقام والمدبر الثاني للثورة كان محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر فكان سليل بني أمية ، وكان عبد الملك بن المنصور قد أمر بإعدام أبيه هشام بن عبد الجبار بتهمة التآمر ضده بالإشتراك مع الوزير عيسى بن سعيد القطاع الذي أعدمه عبد الملك أيضاً.وكان محمد بن هشام فتى جريئاً في الثالثة والثلاثين من عمره ، وكان بعد قتل أبيه يتحرزعلى نفسه ويختفي في أحواز قرطبة وكهوفها ، واجتمع حوله بنو أمية وكان له ولأبيه من قبل دعاة وأعوان كثيرين من أهل قرطبة ، واجمع بنو أمية على اختياره وبايعوه سراً على الولاية والخلافة فهو حفيد عبد الرحمن الناصر .واضطر شنجول وهو في طريقه عائداً إلى قرطبة أن يعسكر بجيشه في قلعة رباح حتى يدبر أمره ويعيد تنظيم صفوفه التي سادها الإضطراب بعد أن علم بالإنقلاب الخطير الذي وقع في قرطبة، وأعلن تنازله عن ولاية العهد واقتصاره على الحجابة فقط وبعث بذلك إلى طليطلة ، وناشد الناس أن يقفوا إلى جانب الخليفة هشام ونصرته والتمسك بطاعته فلم يعبأ أحد بدعوته وتخلى عنه زعماء البربر الذين كانوا يؤلفون معظم جيشه . ولقد أفاد إبن عذارى في البيان المُغرب بأنه كان يرافق شنجول في معسكره أحد زعماء بني غومس ، وكان من النصارى المنتمين إلى شنجول بقربى أمه من عمومة الملك سانو غرسيه ، وكان شنجول قد صحبه في غزوته يرجو عونه على بعض خصومه من الزعماء المجاورين . فلما رأى ابن غومس اضطراب احوال الجيش وتسرب الجند منه نصح شنجول بأن يَعدل عن السير إلى قرطبة وأن يعود إلى طليطلة ويحتمي بحاكمها القائد واضح وقال له : ” أرى أحوالك منتقصة وأمورك مدبرة وجندك مخالفين لك فأخبرني عن ذلك الرجل الذي في قرطبة ، أأنت أشرف أم هو ؟ قال شنجول بل هو قال ابن غومس : الناس أميل إليك أم إليه ؟ قال ما أراهم إلا إليه أميل ، فقال هذا دليل ردئ . قال شنجول فما الرأي عندك ، قال : الرأي عندي أن ترسل وأرسل معك أصحابي الليلة إلى القائد واضح في طليطلة فنكون معه يداً واحدة … ” وأضاف ابن غومس ” خذ باليقين ودع الظن ، فأمرك والله مختل وجُندك عليك لا لك . فرفض شنجول وزعم أنه متى أقترب من قرطبة سارع أهلها إلى نصرته فقال ابن غومس : ” أنا معك على كراهة لرأيك وعلم بخطتك ، فان عشت عشتُ معك وإن مت متُ معك ” . وظل معه حتى النهاية . أحكم محمد بن هشــــــــــــــام بن عبد الجبار وأصحابه السيطرة على قصر الخلافة في قرطبة وأجبر الخليفة هشام المؤيد على خلع نفسه بعد أن عاتبه على إذعانه لسلطان بني عامر فخلع هشـــام نفسه في حضرة أعيان وقضاة قرطبة بعد ثلاثة وثلاثين عاماً من الخلافة والتف أهل قرطبة من حوله واعتبروه بطلاً منقذاً ، فهو أول من ثار على سلطان وجبروت بني عامر ، وأحس الناس أن كابوس الطغيان والأرهاب العامري قد ذهب إلى غير رجعة ، وأن عهداً جديداً عادلاً قد بدأ ، ولم يدر بخلد أحد منهم قط أن هذا التحول الفجائي الخطر كان نذير محنة مُزلزلة ســــوف تطيح بكل ما نعموا به في ظل الدّولة العامريّة من إستقرار وأمن ورخاء.استقر الخليفة الجديد المهدي محمد بن هشام في قصر الخلافة بقرطبة مع صحبه وخاصته وأصبح هو الآمر الناهي وأمر بنقل الخليفة المخلوع هشام وأهله إلى إلى إحدى دوره بالمدينة . وفي نفس اليوم سارع محافظ مدينة الزاهرة – بعد أن علم بأحداث قرطبة وخلع الخليفة – إلى تحصين المدينة وتأمين أسوارها وأبوابها وحشد مالديه من الجُند وفتيان العامرية من محترفي القتال والمدربين عليه في محاولة أخيرة لانقاذ هذه المدينة الملكية من عبث الدهماء والعامة الذين دفعهم المهدي إليها بقيادة ابن عمه عبد الجبار بن المغيرة الذين تمكنوا من إقتحامها عنوة وتخريبها وسلبها تماماً . لم يستطع الجند المكلفون بحماية المدينة الصمود أمام هجوم آلاف العامة الذين أحاطوا بالمدينة من كل جانب لسلبها ونهبها ، فهاجموا قصر عبد الملك بن أبي عامر وكان يوجد خارج أسوار المدينة المحصنة وكان به أهله وأمه الذلفاء فنهبوه وتخاطفوا متاعه ، وأمر المهدي بأن تُنقل الذلفاء وأسرتها إلى أحد بيوتها في قرطبة بالرغم من أنه تولى الخلافة مســتعيناً بما كانت تمده به هو وأصحابه من أموال طائلة . وفي منتصف يوم 18 جماد الأولى سنة 399 هـ / 1009 م ، فتحت حامية المدينة أبوابها ، ودخلت جموع العامة المهاجمة قصر الزاهرة الخليفي ونهبوا مابه من المتاع والنفيس ، واستولى العامة على خزائن الكسوة والسلاح والحُلي واستولى المهدي لنفسه على جميع محتويات خزائن المال وخاصة المتاع وجواهر النساء . وأطلق سراح النساء الحرائر من أسرة بني عامر ، وأخذ الجواري لنفسه وأهدى بعضهن لأصحابه . وإلى جانب السّلب والنهب قام المهدي محمد بن هشام بهدم صروح المدينة وأسوارها وسمح للعامة بالإستيلاء على كل نفيس من المرمر والطرائف والأبواب من المباني المهدومة . وفي خلال أيام قليلة أختفت صروح مدينة الزاهرة وكل معالمها الجميلة ، وتحولت المدينة إلى أطلال دارسة وخرائب . وكان المهدي يتعجل القضاء على مؤيدي بني عامر مخافة أن يتمكن عبد الرحمن شنجول من العودة قبل أن يتمكن هو من إحكام قبضته على كل شئ في قرطبة.وفي أثناء هذه الأيام القلائل التي غيرت فيها أحداث قرطبة المتسارعة كل شئ في الأندلس ، أصر عبد الرحمن ابن المنصور على السير نحو قرطبة بالرغم من أنه علم أنه لم يعد له فيها شئ ، وبالرغم من تحذير رفاقه له وطلبهم منه أن يعود إلى طليطلة ويلوذ بها بعد أن لفظت دولة بني عامر أنفاسها الأخيرة بعد تعيين خليفة جديد من سلالة بني أمية أصحاب السلطة الشرعيّة ، وتدمير الزاهرة عاصمة بني عامر وازالتها من الوجود . اقترب شنجول من قرطبة على رأس فلول جيشه ، ونزل بمكان يُعرف باسم ” منزل هانئ ” ، من أحواز قرطبة وقرر المبيت فيه حتى الصّباح . وفي جوف الليل غادر قادة البربر ومن معهم من جند ورحلوا ، كما رحل فتيان شنجول من الصّقالبة ومن تبقى معه من أعيان الأندلس ، وعندما طلع نهار آخر يوم من جمادى الآخرة سنة 399 هـ / فبراير 1009 م ، لم يبق في معيّة شنجول سوى نسائه وخاصته وحشمه وعدد قليل من فتيانه ، وصديقه إبن غومس مع عدد من جنده ورجاله ، وهنا عاد إبن غومس مرة أخرى ينصح شنجول بأن ينجو بنفسه وآله وصحبه ويعود إلى طليطلة ولكنه أصر على الرفض وواصل السّير إلى قرطبة حتى وصل إلى دير أرملاط Guadamellato على مشارف المدينة حيث رحل عنه من تبقى معه من الأتباع والرّجال ، فأدخل نســــــــــــاءه قصر أرملاط وخرج من القصر مُوّدعاً إيــاهن يتبعه صراخهن وعويلهن وكـــــان في هذه المرة قد قرر الفرار مع صاحبه إبن غومـــس ، ولكن أوان فراره كان قد ولى ودخل بين حَجَري الرّحى . وأختبأ هو ومن معه داخل الدير ولكن سُرعان ما اقتحم رجال المهدي محمد بن هشام الدير واعتقلوا شنجول ومن معه وأوثقوا أيديهم واقتادوهم إلى قرطبة ، وأيقن عبد الرحمن أنه مقتول في يومه على يد المهدي ، ولم يكن يدري أنه سوف يُقتل هو وصاحبه بعد ساعة واحدة على يد الحاجب ابن ذري الذي كان يقود فرقة الفرسان التي قبضت عليهما داخل الدير. كان عبد الرحمن شنجول يصيح محتجاً على وثق يديه وهو ولي عهد الخليفة ، وفي خلال الطريق طلب من ابن ذري أن يفك وثاق يديه ليستريح فأجابه ابن ذري إلى طلبه ، وبمجرد فك وثاقه أخرج شنجول من خُف كان يلبسه سكيناً في لمح البصر وجّهه إلى صدره محاولاً الأنتحار , ولكن الجُند أدركوه وأعادوا وثق يديه في الحال . وهنا أمر الحاجب بن ذري بقتله فقام الجند بذبحه بسكينة في الحال وفصلوا رأسه عن جسده ، وقاموا بقتل غومس صاحبه . وحُمل رأس شنجول إلى المهدي محمد بن هشام في قرطبة في مساء نفس اليوم ، وحُمل جسده على بغل ، وأمر المهدي بتحنيط جثته وتثبيت رأسه عليها وألبسوه ملابسه ونصبت الجثة على سارية طويلة من الخشب على باب السدة من قصر قرطبة وعُلقت رأس ابن غومس على سارية ثانية بجانب الأولى ليرهب أهل قرطبة . وكان مقتل عبد الرحمن شنجول بن المنصور في اليوم الثالث من رجب سنة 399 هـ / 3 مارس 1009 م ، وبمقتله إنهارت الدولة العامريّة ذلك الصرح الشامخ الذي شاده المنصور ابن أبي عامر وحقق به الأمن والرخاء والنظام للأندلس في ظل حكم مطلق طاغي سَلَب الناس كل مظاهر الحُرية وجعلهم يتوقون إلى التخلص منه رغم الثراء والرخاء والأمان الذي حققه لهم ، وسقطت دولة بني عامر في سرعة مدهشة على يد الحاكم المنحرف المستهترعبد الرحمن شنجول ابن المنصور واجترائه على اغتصاب ولاية العهد من بني أمية . ولكن شعب الأندلس لم يجن خيراً من سقوط هذه الدولة ، إذ أن ثورة العامة والدهماء التي قادها المهدي محمد بن هشام أدت إلى إنهيار دعائم النظام والأمن وتقوض الحكومة المركزية ، واندلاع الفتن والفوضى الشاملة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق