محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

الأربعاء، نوفمبر 24، 2010

تأثير العمارة القرطبية في فنون الأندلس وعمارتها داخل الأندلس وخارجها


بلغت قرطبة ذروة ازدهارها الحضاري والفني في عصر الخلافة في حين كانت دول اوربا ماتزال تجتاز عصور التأخر والإنحطاط . وتتمثل عظمة فنون قرطبة في عمارة مسجدها الجامع وزخارفه وصار مثلاً صارت عليه مساجد الأندلس والمغرب وغيرها فظهرت قبابه القائمة على ضلوع متقاطعة في قباب طليطلة وغيرها من قصور ومساجد الأندلس . وأصبح طراز عمارة قرطبة في عصر الخلافة مثالاً يحتذى في عمارة المشرق الإسلامي وفي دول الغرب المسيحي وفي أسبانيا نفسها بعد الإسترداد المسيحي لمدن الأندلس مدينة بعد مدينة . فقد كان القساوسة والرهبان ينظرون إلى جامع قرطبة بعد تحويله إلى كنيسة نظرة تقديس ولأن المسلمين أقاموه فوق أنقاض كنيسة لدرجة أن القساوسة أشاروا على ألفونسو السادس ملك قشتالة بأن يرسل زوجته – وكانت حاملاً- إلى الجامع لتلد فيه تبركاً به . وكان من عوامل انتشار فنون قرطبة في العمارة الإسلامية والمسيحية ، هو هجرة عدد كبير من الصناع والحرفيين إلى المغرب والمشرق الإســـلامي بسبب أحداث الفتنة الدامية التي انتهت بسقوط الخلافة . وهناك عامل آخر هو تســـــــلل الكثير من البنائين والعرفاء / المهندسون  المستعربين بسبب اضطهاد ذوي الأصول المستعربة في عصري المرابطين والموحدين ولجوئهم إلى الممالك المسيحية الأسبانية في الشمال مما أدى إلى حدوث تواصل ثقافي وحضاري بين التقاليد الفنية التي حملوها معهم والتقاليد المحلية في المناطق التي استقروا بها .           

  وساعد على هذا التواصل فقر امكانات الفن في اسبانيا وأوربا عموماً بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية ، وتغلغل النفوذ الفني الأندلسي على يد المدجنين وهم العرب الذي ظلوا في أسبانيا بعد سقوط الأندلس واعتنقوا المسيحية وحملوا أسماء أوربية . لقد كان للفن عموماً في قرطبة في عصر الخلافة التأثير الأكبر في بناء قواعد الفنون الزخرفية في الأندلس جميعاً وبصفة خاصة في عصر ملوك الطوائف وماجاء بعده من عصور حتى سقوط غرناطة آخر العواصم الإسلامية في  الأندلس في قبضة مسيحي قشتالة  .            بل إن قرطبة حتى بعد أن سقطت واستردها المسيحيون لم تتوقف عن مد فنون الأندلس بموجات من تأثيراتها حتى نضجت هذه الفنون وازدهرت  في عصر الطوائف حين بلغ فن الزخرفة ذروته في الإفراط والفخامة والتعقيد ، لقد ابتكروا العقود التي تتقاطع في حذق هندسي بزخارف نباتية أخاذه تبدو فيها الأوراق النباتية المتشابكة ، والفرع  المتداخلة بحيث يصعب إلى الناظر إليها أن يعرف من أين تبدأ خطوطها التي تتداخل وتتشابك فيما بينها بشكل لانهائي ساحر الجمال . ونلاحظ في الزخارف الأندلسية في عصر الطوائف في قواعد الأندلس المختلفة من سرقسطة إلى طليطلة وغرناطة وأشبيلية والمرية ومالقة أنها تحررت إلى حد كبير من الجمود الذي كان يغلب عليها ، حيث ظهرت في الزخرفة رشاقة وحرية في التموّج والإنثناء والتشابك والتداخل بشكل منقطع النظير يجل عن الوصف . وقد أحدثت تأثيرات قرطبة الفنية نفس الشئ في فنون المرابطين والموحدين مما أدى إلى التخفيف من جمود فن الزخرفة المغربي وميله إلى الزهد والتقشف وتمكنت تأثيرات قرطبة من تحويل هذا الفن المغربي إلى فن أندلسي غني كما نرى في جامع الكتبية بمراكش ومسجد أشبيلية الجامع . واستمر تطور الفنون الأندلسية حتى عصر بني نصر وهم آخر ملوك الإسلام في الأندلس عندها أدرك أهل الأندلس في مملكة غرناطة أن النهاية المحتومة التعسة قد اقتربت فاتجهوا إلى التعبير عن القيم الجمالية في الفن والإستجابة للمشاعر الإنسانية التي صاحبت ذلك ، وذلك قبل أن ينتقلوا بهذه الفنون عائدين إلى المغرب تاركين تراثاً حضارياً ضخماً يتمثل في قصور الحمراء ومابها من فنون تجسد رقة وثراء الحياة في الأندلس .  

 تأثير فنون قرطبة داخل الأندلس  

كانت غرناطة في جنوب الأندلس تتمتع بنوع من الأستقلال بسبب طبيعتها الجبلية الوعرة ، وكانت قبل الفتح الإسلامي حاضرة رومانية ومركزاً دينياً . ولما فتحها المسلمون استقر فيها جند الشام القيسيين من جيش موسى بن نصير وعاشوا في سهولها حول المسجد الذي بناه حنش الصنعاني بعد الفتح الإسلامي بقليل . وهذا المسجد أعاد بناءه الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة 250 هـ / 864 م  وتم حرقه أثناء ثورة البربر سنة 401 هـ / 1010 م . وعند الكشف عن بقايا هذا المسجد ودراستها تبين أنه كان مشيداً من كتل من الحجر بنفس أسلوب البناء في مباني قرطبة . وتبين أن أروقته كانت تقوم على أعمدة مأخوذه من مباني رومانية . وبفحص زخارفه المتبقية تبين أنها من الجص وتعتمد على زخارف نباتية تتميز بتقدم فني كبير يواكب ذلك الذي حدث في قرطبة . وعثر بين أطلاله على ثريات من البرونز مصنوعة في قرطبة ، وأصبحت الآن أمثلة رائعة حيّة لصناعة المعادن في الأندلس . وفي سنة 1877م تمت في المنطقة أعمال حفائر منظمة كشفت عن أطلال المنازل التي أتت عليها نيران ثورة البربر سنة 1010 م . وما تبقى من الجدران مزخرف بأشرطة زخرفية وهندسية منفذة بالحفر الدقيق في الجص متأثرة بشدة بفنون قرطبة الزخرفية . وكشفت الحفائر عن ظهور مساحات جدارية كبيرة مدهونة بالأسلوب القرطبي بالجير الملون بالأحمر وتتميز بالزخارف الهندسية ، ورسوم أخرى بألون مائية بزخارف نباتية حمراء وصفراء ، وهو محفوظ الآن في متحف آثار غرناطة .  

جسر دي بينوس  puente de pinos بالقرب من غرناطة  

لايُعرف على وجه التحديد ما إذا كان الأمير عبد الرحمن هو الذي قام بإنشاء جسر بينوس الذي مازال قائماً على نهر كوبياس في طريق قرطبة بالقرب من البيرة . وقد أسفرت الدراسة التي تمت على أسلوب بناء الجسر أنه مبني من كتل من الحجر مصفوفاً عرضاً بالأسلوب المعتاد في مباني قرطبة ، ولكن إتصال الكتل داخل المداميك غير منتظم بشكل يشبه أسلوب بناء الزيادة التي تمت على المسجد الجامع في قرطبة بأمر عبد الرحمن الأوسط . يتألف جسر دي بينوس من ثلاثة عقود يبلغ قطر أوسطها 9.80 سم  وتشبه حنيته حدوة الفرس . والعقد الأكبر معشق السنجات مثله مثل الجسر الروماني القديم الموجود في فيلا دلريو Villa del Rio . وتظهر العقود الثلاثة للجسر أكتاف بها قنوات غاطسة الغرض منها مقاومة دفع الماء وصده .و كان يوجد فوق أحد العقود برج دفاعي صغير هدم سنة 835 هـ / 1431 م  . أما الكتل الحجرية فيبلغ طول كل منها متر واحد وعرضها نصف متر ويبلغ سُمكُها 35سم تقريباً . وكما حدث في قرطبة تم تشــــــــطيب البناء بالكامل فتم كسوته بالملاط ودُهن وذلك بغرض تسوية مواضع الإتصال فقط . 



برج سان خوسيه في غرناطة  

كان العرب يحكمون غرناطة من الحمراء ، وكان طبيعياً أن يزداد عدد المسلمين فتم بناء مسجد جامع في القصبة وعُرف باسم جامع المرابطين ، وما لبث هذا الجامع أن تحول إلى كنيسة بعد سقوط غرناطة هي كنيسة ” سان خوسيه ” ، ولم يتبق من الجامع الأصلي الآن سوى المئذنة التي تحولت إلى برج لجرس الكنيسة .والبرج مربع التخطيط يبلغ طول ضلعه 3.85 سم . أما سلمه الصاعد إلى أعلى فأنه يلتف حول محور سُمكه 41 سم ، ويتسرب إلى داخله ضوء خافت من خلال طاقات صغيرة . وفي الجدار الجنوبي نافذة كبيرة ذات عقد على شكل حدوة الفرس ، والعقد نصف العلوي له سنجات من الآجر . وبُني البرج من كتل مهذبة من الحجر ثبتت إلى بعضها باستخدام الجص ، ويبلغ طول الكتلة الواحدة 65 سم وعرضها 40 سم ، وهي مصفوفة بين كتل عرضية ثلاث ثم ثلاث وهكذا سُمك الواحدة 10 سم  وقد أثبتت الأبحاث الآثارية أن هذه الكتل مجلوبة من مباني رومانية قديمة ونظام تصفيف الكتل يختفي تحت طبقة من الملاط المتين. ويكاد نظام بناء هذا البرج يتفق مع نظام بناء برج سانتا كلارا الموجود في قرطبة ، وكان هذا البرج في الأصل مئذنة ويمتاز بكتله العرضية المزدوجة ، وقد انتشر نظام بناء هذا البرج في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ، وقد تأثر بنظام بنائه البرج الغرناطي .  



جسر وادي الحجارة   

من المباني التي تأثرت بنظام البناء القرطبي جسر وادي الحجارة الكبير الذي يمتد فوق نهر ” هنارس ” . وأرض نهر هنارس هذه ذات طبيعة صلصالية قابلة للنحر والتآكل بفعل جريان الماء المستمر وقد أطلق العرب اسم ” وادي الحجارة ” على هذا النهر ، أما اسمه الأسباني فقد تم تحويره عن الأسم العربي وهوًجواد لاخارا “  .وقد بقي من البناء العربي لجسر وادي الحجارة عقد نصف دائري ، كما بقي منبت العقد الأكبر الذي ربما كان أقل من نصف دائري . وبين العقد النصف دائري ومنبت العقد الأكبر كتف كبير واجهاته مستديرة ونتوءات بارزة الغرض منها حماية الكتف من دفع الماء . كما يوجد عقد آخر يشبه الفتحة كان الغرض منه تصريف المياه الزائدة ، وهذا العقد واسع مركزي التسنيج على شكل حدوة الفرس . وتبرز في جانبي هذا العقد دعامتان تنتهي كل منهما بميزاب . ونظام صف كتل البناء ليس له نظام معين ويتألف من توالي كتلة طولية مع كتلة عرضية سُمكها قليل وعددها غير متساوي .  



الحصون الحربية في عصر الخلافة    

لم تأخذ العمارة الحربية نصيبها اللائق من البحث والدراسة ومن أهم العمائر الحربية هي الحصون . وقد بقي منها حصن طريف الذي تم بناؤه سنة 349 هـ / 960 م . وهذا التاريخ مسجل في كتابة تذكارية متبقية على باب الحصن . ويتألف حصن طريف من أسوار وأبراج من كتل الحجر المصفوفة بالطول وبالعرض . والحصن الثاني يرجع تاريخ بنائه إلى سنة 356 هـ / 967 م ، مبني من مادة الملاط وأبراجه الدفاعية مستديرة .ويوجد أيضاً حصن وادي آش وهو ذو أبراج ضخمة جدا مبنية من مادة الملاط ، وحصن فاسكوس الذي يكاد يكون كاملاً وهو حصن مهجور في منطقة طليطلة ومبني من كتل الحجر . ويوجد حصن دفاعي آخر هو حصن ثوريتا دي لوس كانس وبابه في حالة جيدة .ومن أشـــــــــــهر الحصون المبنية عــلــــــــى الطراز القرطبي هو حصن ” غرماج ” القائم عند نهر دويرة في الشمال ، وهو مبني من أحجار غير منتظمة ، وبابه كبير واسع يعلوه عقد على شكل حدوة الفرس باســــلوب مستمد تماماً من طراز العمارة القرطبية في عصر الخلافة وذكرت المصادر العربية أن الذي بنى هذا الحصن سنة 354 هـ / 965 م ، هو القائد غالب أحد القواد البارزين للخليفة الحَكَم المستنصر .  

تأثيرات العمارة القرطبية في فنون المغرب ومصر  

بدأت علاقة الأندلس بالمغرب منذ عصر الدولة الأموية ثم توثقت تماماً منذ أواخر عصر الخلافة ، وأخذت التأثيرات القرطبية الأندلسية تنساب في اتجاه المغرب الأقصى  وتوثقت واشتدت في عصر المرابطين والموحدين حتى غطت كل بلاد المغرب سعى خلفاء قرطبة منذ أيام عبد الرحمن الناصر إلى نشر نفوذهم السياسي في أنحاء المغرب الأقصى بغرض مواجهة النفوذ الفاطمي الشيعي الذي أخذ ينتشر بسرعة . فنجد أن عبد الرحمن الناصر هو الذي أمر ببناء مئذنة جامع القرويين بمدينة فاس سنة 345 هـ / 956 م مستخدماً في ذلك أخماس غنائم الروم ، وكانت على نمط مئذنة جامع قرطبة ، كما أمر الناصر أيضا ببناء مئذنة الأندلسيين بمدينة فاس في نفس السنة .وتطورت تأثيرات الفنون القرطبية في عصر دويلات الطوائف وعُرفت بالفنون الأندلسـية وأصبح طراز معروف . وقد تأثر المرابطون بعد وصولهم إلى الأندلـــــس بالذوق الفني القرطبي الأندلسي . وأخذ أمراء المرابطين منذ أيام يوسف بن تاشفين يستقدمون رجال الفن والبناء من الأندلس . وتتجلى تأثيرات الفن القرطبي الأندلسي في زخارف قبة الباروديين في مراكش .

وفي عصر دولة الموحدين توثقت العلاقات الفنية بين الأندلس والمغرب إلى درجة الأندماج المشترك . وظهرت بجلاء تأثيرات فنون الأندلس في العمائر التي أقامها خلفاء الموحدين في المغرب مثل جامع حسان بالرباط وجامع الكتبية في مراكش  وجامع القصبة في الرباط .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق