محمود يوسف خضر

ضيف على الحياة

محمود يوسف خضر
كاتب فلسطيني ، مقيم في أبوظبي

السبت، ديسمبر 31، 2011

الزمن الضائع

الزمن الضائع


عندما سأل الرب آدم: "هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها. فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت. فقال الرب الإله ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة : الحية غرَّتني فأكلت... وقال للمرأة:- "بالوجع تلدين أولاداً، وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك"...

..." وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً الخير والشر. والآن لعله يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحيوة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها"(1).

لا أحد يعلم متى تم ذلك، ولا يستطيع أحدنا الإدعاء بأن فكرة الخلود لم تخطر له على بال، ولكن كيف يكون الخلود للإنسان وهناك الزمن، الذي يتربص بنا ويحصدنا، أيكون الخلود بيولوجياً بالاستمرار من خلال الأبناء؟ أيكون الخلود اجتماعياً بالاستمرار بالأعمال الصالحة في المجتمعات؟ ولكن من منا يذكر مكتشف النار أو المعلّم الأول للحروف والكلمات؟!

وإذا انتقلنا إلى سراديب الميثولوجيا اليونانية، فالكون بدأ بالفضاء والفوضى، ثم انطلقت الأرض منبثقة من الفضاء، ووُلدت الأرض، النهار، ثم الليل والسماء والبحر، ثم جاءت بعد ذلك العمالقة، وهي مخلوقات ضخمة بشعة ذات عين واحدة في منتصف الجبهة، ولقد جسدت كل ما هو ضخم وقوي على الأرض، مثل الجبال والزلازل وثورات البراكين، وكان أصغرها "كرونوس"، إله الزمن، الذي استطاع إخضاع العالم كله لسلطانه، وكان إلهاً شديد القسوة مجرداً من الرحمة لم يتورع عن افتراس أولاده، ولا يزال يحطم كل شيء، لقد صوّروه حاملاً منجلاً بشعاً لجني حصاد أي شيء، وكل شيء ولا مهرب لأحد من منجله ولا نجاة لنا منه.

وإذا عدنا بخيالنا إلى أجدادنا الأوائل قبل عشرة آلاف عام، لوجدنا أنفسنا محاصرين بالحيوانات المتوحشة، منكمشين على أنفسنا، بالكاد تنتصب قاماتنا، نحيا في كهوف وسط غابات كثيفة نكاد لا نرى الشمس، وأدواتنا من الحجر وأيادينا متمايزة وأصابعنا قادرة على السيطرة على الأشياء، ولم نكن نحس بالزمن فكل الأيام متشابهة، والعالم تنتهي حدوده عند البحر والجبل، ودورة الحياة في صيرورة مستمرة لا متناهية تكاد لا تتوقف عن الدوران، فكل ما هو حي جدير بالموت، والحياة مآلها إلى الهلاك.

وإذا أدرنا سفينة الزمن إلى الوراء 30-40 ألف عام، كان جدنا "الكرومانيوني"، صاحب الجمجمة الكبيرة والوجه العريض، الواقف مندهشاً دوماً حول ما يدور من حوله، يرعبه صوت الرعد وتخيفه الخفافيش، ولا يدري ماذا يفعل أمام البرق والأمطار الغزيرة، ولم يكن أمامه سوى الهروب إلى أقرب كهف. وإذا سبحنا في اتجاه الماضي إلى 50-70 ألف عام كان جدنا "النيانديرتالي"، الذي كان دائماً يحاول الوقوف منتصباً لرؤية الحقيقة وكثيراً ما كان يفشل في مواجهتها، كانت جبهته منحنية إلى الخلف، وحجم عقله أصغر من الإنسان الحالي، فلم يكن يمتلك حينذاك الوعي وكان يحيا في قلق وشك فلم يكن يعلم لماذا يحيا الإنسان؟

ولا نستطيع المضي قدماً دون أن نحيك تاريخ أمّنا الأرض التي بدأت وتشكلت في فجر الحياة منذ خمسة مليارات سنة، وفي ذلك العصر ظهرت القارات والمحيطات، وبدأت الكائنات الحية المعقدة في الظهور قبل 700 مليون عام تقريباً.

وأعقب ذلك العصر عصر الحياة القديمة منذ 600 مليون سنة، وكانت أشكال الحياة قليلة وفي المحيطات فقط، فظهرت الأسماك وغزت بعض النباتات، وبرفقتها بعض الحيوانات، اليابسة التي ازداد الزحف عليها، فانتهى ذلك العصر والأرض مليئة بالغابات الكثيفة.

وجاء الصيف الأبدي، وهو عصر الحياة المتوسطة الذي دام تقريباً 135 مليون سنة، وكان الطقس دافئاً ومستقراً على الدوام، والزواحف تسيطر على الأرض بمائها ويابسها، وكان وزنها يعادل خمسة أضعاف الفيل الحالي، ولقد وجدت بقايا "للبرونتوصور" طولها 20 متراً ووزنها 30 طناً، وتحوّل الصيف الأبدي إلى نقيضه. فغطى الجليد الأرض وتحولت السماء إلى اللون الأبيض فماتت كل المخلوقات الضخمة.

وها نحن نعيش الآن عصر الحياة الجديدة، وهو مستمر منذ 55 مليون سنة. ويبرز هنا السؤال: هل كانت الحياة والمخلوقات على الأرض تدرك الزمن؟ فملايين السنوات التي تحدثنا عنها من عمر الأرض، وآلاف السنوات التي تحدثنا فيها عن الإنسان، كان الوعي ينحصر في وعي المكان، ولم تعِ الكائنات الحية الزمن فكان التاريخ تاريخ المكان، والتطور تطور المكان، إلى أن انفصل الذهن عن العقل البشري ووجد الوعي، فربط الإنسان ما بين العلاقات الخارجية والأحداث والظواهر، وأوجد قوانين نظرية خارجية تحلل تلك العلاقة، فكان لا بد من إدراك الزمن. وفي البدء ربطت البدائية الزمن بأحداث جسام، كان يقال بأن فلاناً وُلد يوم غرقت جزيرة كذا، أو فلاناً مات بعد اصطياد السمكة العود "الكبيرة"، بنحو كذا، فلم يكن الإنسان يدرك للزمن معنى. ومنذ وجد الزمن زادت تعقيدات الحياة وأصبحت تصرفات البشر أسيرة إطار الزمن الذي اخترعناه، ويظل الزمن الحقيقي هو في داخل كل منا. فعندما يعانق أحدنا حبيبته يشعر بأن الزمن تجمد، وتمر الدقائق والساعات في ثوان، وعندما يضع الحظ العاثر أحدنا مع شخص لا ننسجم معه، نشعر وكأن الدقائق التي قضيناها معه كالساعات الطوال. وصاحب القضية التي يعذب من أجلها بنقطة ماء منتظمة تسقط على رأسه، يشعر وكأن نقطة الماء صخرة كبيرة، وأن الزمن ثقيل كسيف مزدوج- يمزق الكبد. فعندما أرادت الآلهة تعذيب "بروميثيوس" لإعطائه النار للبشر، وهي من الأسرار الإلهية، صلبته على الجبل وجعلت الصقر ينهش كبده طوال النهار، لينمو ثانية في الليل ويعاد نهشه في النهار. فهل زمن نهش الكبد كزمن الفتى الذي يمرح في البساتين؟... لا تسأل نفسك كم عشت من السنوات، فربما تصاب بخيبة الأمل بأن ثلت عمرك قضيته في النوم، ولا تخجل إذا واجهت نفسك بالحقيقة، وأنت على مقهى الصراحة فإن العمر الحقيقي لا يتجاوز بضعة أيام، وبقية الحياة هي الزمن الضائع الذي ينساب ما بين أصابعك ولا تستطيع الاستحواذ عليه. سحب من الضباب تمر كالحلم وتفلت دون أن تمسك بها، حورية بحر تثير الأحاسيس وتلهب المشاعر، وما إن تحاول الإقتراب منها لتقبيلها، تبتسم لك ساخرة وتنساب مع القمر.
منحوتة حارس الزمن -  مدخل مغارة جعيتا - في لبنان

ولو استطعنا الخروج من نفق أفكارنا الضيق، وحلَّقنا إلى أعلى، ونظرنا من خارج الكون، فسنجد أن العمر الأكثر احتمالاً لهذا الكون يبلغ قرابة 15 مليار سنة، وأن عمر الأرض زهاء خمسة مليارات سنة، وأن خمسين مليون سنة مرَّت على تشقق القارات وتباعدها حيث تكوّن الوجه الحديث للكرة الأرضية وماتت الزواحف وأصبحت الحيوانات ذات الدم الحار هي سيدة الأرض(2)، وذلك بعد أن مرت الأرض بملايين السنوات من الصيف الحار، وقبلها ملايين السنوات من الفترات الجليدية، وأنّه منذ نحو مائة ألف سنة ظهر عصر الحضارة الإنسانية القديمة، عندما استطاع الإنسان أن يستخدم الأدوات الخشبية بشكل بدائي، وأن العصر النحاسي بدأ منذ نحو ستة آلاف سنة فيما بدأ العصر الحديدي منذ ثلاثة آلاف سنة. وإذا قسمنا تلك الأزمنة إلى عمر الكون المفترض فسنجد أن الإنسان صنع أدواته الخشبية منذ نحو ثلاث ساعات، وبدأ عصره النحاسي منذ نحو 12 دقيقة، والآخر منذ ست دقائق، وأن السيد المسيح جاء منذ نحو أربع دقائق، فيما بشّر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) بالرسالة منذ نحو ثلاث دقائق، وأن الحضارة الإنسانية بدأت منذ بضع ثوان بخطوات سريعة، فأقام الإنسان علوماً حديثة وقطع أشواطاً متقدمة في الصناعة والتكنولوجيا.

ولنكمل استراحتنا خارج الكون ولننظر إلى الإنسان، فسنرى حياته بالكامل منذ ميلاده وحتى مماته، عبارة عن جزء من الثانية بالنسبة إلى عمر الكون، ولو افترضنا وجود كائنات ذكية تحيا بمقاييس مختلفة، فستنظر إلينا كنظرتنا إلى الحشرة التي تولد وتموت في الليل ولا يتسنى لها رؤية النهار، أو الأخرى التي تولد وتموت في النهار ولا يتسنى لها رؤية الليل، فكم هي تعيسة تلك الحشرة التي لم تشاهد جمال الصبح، وكم شقية تلك التي لم ترَ روعة الليل. ولا ندري ماذا نقول بالنسبة إلى الإنسان الذي يولد ويموت في لحظة كونية ولا يرى نهار الكون أو ليله.

ومنذ بداية العصر الحديث كان يُنظر إلى الزمن وكأنه نهر ينساب بمعدل ثابت لجميع الأشخاص والأشياء، إلى أن جاء "أينشتاين"، وأثبت، من خلال نظرية النسبية الخاصة، أن الزمن لا ينساب بالمعدَّل نفسه بالنسبة إلى راصدين مختلفين يرصدانه من نقطتين مختلفتين، ولا يتحركان بالنسبة إلى بعضهما بأية سرعة نسبية. ولقد ضرب المثل الشهير بأنه إذا حدث انفجار في مجموعة "الجبار" في ليلة 17 مارس (آذار) العام 2000، نتيجة لانفجار "الجوزاء" فلن يرى سكان الأرض هذا الانفجار في هذا التاريخ نفسه، لأن الجوزاء على بعد 300 سنة ضوئية من الأرض، أي أن الموجات الضوئية الدالة على حدوث الانفجار ستصلنا في 17 مارس (آذار) العام 2300م. وإذا كان هناك أحد على "الديوان" فسيرى الانفجار نفسه في 17 مارس (آذار) العام 2250م، حيث إنه يبعد 250 سنة ضوئية عن الجوزاء، أي إن الحادثة الواحدة تحدث في كل هذه الأماكن في وقت يختلف من مكان إلى آخر وفقاً للمسافات ما بين الأماكن.

ولقد أدت نظرية أينشتاين في النسبية الخاصة إلى حقيقة أنه إذا تحرك راصدان بسرعة منتظمة أحدهما بالنسبة إلى الآخر، فإنّ الزمن في مجموعة كل منهما يظهر للآخر كما لو كان يسير ببطء. هذه الحقيقة أدَّت إلى ظهور "تناقض الزمن". ومرة ثانية سنستعير من أينشتاين مثله الجميل، ولنفترض أننا ذهبنا معاً في رحلة فضائية إلى نجم "السماك الرامح"، الذي يقع على بعد 33 سنة ضوئية من الأرض، فإذا سارت السفينة بسرعة قريبة من سرعة الضوء فإنها تصل إلى ذلك النجم في مدة تزيد قليلاً على 33 سنة، وإذا عادت مباشرة فإنها تعود إلى الأرض ثانية بعد 66 سنة من مغادرتها لها.

ولما كانت السفينة الفضائية قد سارت بسرعة كبيرة بالنسبة إلى مقاييس الأرض، فإننا لن نشعر بأننا استغرقنا 33 سنة في رحلة الذهاب، وعندما نعود إلى الأرض فإنه سوف يبدو أننا لم نتركها سوى يوم واحد. في حين أنه سيكون قد مضى علينا 66 سنة بالنسبة إلى سكان الأرض، وقد لا نجد أحداً من أصدقائنا على قيد الحياة، فعمر كل من تركناهم قبل رحلتنا الفضائية سيكبر بمقدار 66 سنة، فلا منفعة من إغراق النفس في الفضاء للاحتفاظ بالشباب، ذلك أن الموت على صدر المحبوب وفي حضن المعشوف أجمل من الحياة في غياهب الفضاء، والدنيا مليئة بالأسرار والعذابات لن تؤدي إلى فك الألغاز، ولنستمتع بزمننا قبل أن يهرب منا، ولنعيش الزمن والشخص الذي نريده لا الذي يريده الآخرون.

الهواش:

1- سفر التكوين- الإصحاح الثالث- الكتاب المقدس.

2- مولد الزمان- جون جربي- ترجمة د. مصطفى فهمي- الهيئة االمصرية العامة للكتاب.



هناك تعليق واحد: