الثراء المادي لا يعني ثراءً فكرياً
كان لثورة الفلك التي قادها كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، ونادي من خلالها بأن الأرض ليست مركز الكون، بل هي كوكب صغير في فضاء لا محدود، تدور حول نفسها وحول الشمس، وضمن الحركة المزدوجة للكواكب . . . أثر عظيم في تطور البشرية.
وبفضل تلك النظرية استطاع الإنسان في منتصف القرن العشرين مغادرة كوكب الأرض ورؤيته من الخارج، فتبيَّن له أن تلك الكرة السابحة في الفضاء بلا شراع، التي تعجّ بالحركة والصخب والمليئة بالأشواك والكراهية، لا تظهر منها سوى مسطحات مائية وغيوم وضباب ويابسة، ولا يكاد يبدو أي أثر لنشاط الجنس البشري عليها. وعندما أرسل البشر "هابل" لاستكشاف الفضاء العام 1990م، كشف لنا هذا التليسكوب تفاصيل مذهلة عن الكون، فأوغلت عيونه في حديقته ورأى أبعد مجرّة معروفة بدت كما كانت عندما كان عمر الكون قرابة عُشر عمره الحالي، أي عندما كان عمره من 1 – 2 بليون سنة تقريباً. فاستطاع الإنسان أن يرى ماضي الكون، وفشل في رؤية ماضيه، وكم تمنَّيت لو توجّه عدسات هابل إلى الكرة الأرضية ذاتها، لمحاولة اكتشاف مكنونات البشر، ولكن العدسات عجزت عن الوصول إلى أعماق الإنسان، فالحب والكراهية بحاجة إلى معايير فلسفية حاكمة وليس إلى عدسات موجّهة. والإنسان، لم يملك إلى الآن القدرة على المواءمة ما بين الجهود البشرية وقوانين الطبيعة، فالأراضي الزراعية تتراجع لصالح التصحّر، ومصادر المياه تنضب، والأشجار في الغابات تقطع، فما يفعله البشر بأمّنا الأرض فاق ما فعلته البراكين والزلازل وقوى الطبيعة المنفلتة من دمار وتدمير.
إن التدهور البيئي المتنامي وازدياد أعداد الفقراء واتّساع الهوّة ما بين الدول الغنية وتلك الفقيرة، وكذلك ما بين الفقراء والأغنياء في البلد الواحد، في الوقت نفسه الذي تقدم لنا التكنولوجيا حلولاً متعددة وآفاقاً جديدة لاستغلال أفضل للأراضي الزراعية وللمياه ولغيرها من الموارد البيئية، وأصبح باستطاعتنا نقل المعلومات والبضائع والأفكار بسرعة مذهلة، مما جعل كوكبنا "الأرض" صغيراً كما يبدو لنا عندما نراه من الفضاء، تطور من جهة وتدهور من جهة أخرى. فأعداد الناس الذين لا يقرأون ولا يكتبون تتزايد، وكذلك الذين لا يملكون مساكن صالحة للمأوى والذين لا يملكون المأكل المناسب، فالجائعون في ازدياد، والتكنولوجيا تخلق باستمرار فرصاً أكثر وإنتاجاً أوفر، ولكن الرؤية النظرية التي تميز ما بين الحق والباطل والعدل والظلم هي ما نفتقده. ولم يمتلك البشر بعد نُظُماً اقتصادية أو سياسية للتوزيع العادل لإنتاج الكرة الأرضية على سكانها، بينما طوى القرن العشرون صفحاته على أحلام تحطمت على صخرة الحقيقة. فالحربان العالميتان الأولى (1914 – 1918) والثانية (1939 – 1945) وما خلَّفتهما من ملايين القتلى والجرحى والمعوقين، والحروب الإقليمية المستعرة في كل مكان، وملايين الألغام الأرضية المتربصة بالضحايا، وآلاف الطائرات التي تخترق أسراب النورس لتنشر القتل والدمار وتضيء السماء بنيران الرشاشات والمدافع، تلك الأهوال التي شهدها القرن العشرون لأهداف ضبابية، تقودنا إلى المستقبل بدون نظرية شاملة وبدون منهج. فالاشتراكية كنظام اقتصادي أثبتت فشلها والرأسمالية لم تقدم البديل الناجح.
إن ما ينقصنا في الواقع هو الحقيقة التي نبحث عنها وتخدعنا وتراوغنا، فنعتقد أننا أمسكنا بها أو كدنا، فإذا بها تفاجئنا وتخرج لنا لسانها ومن عدة اتجاهات، مرة في تسابق نووي ما بين الهند وباكستان، فيما يرزح شعبهما تحت سياط الفقر والجهل والجوع، ومرة في ممارسات إسرائيلية مفعمة بالقسوة على نساء وأطفال لا ذنب لهم سوى أنهم متمسكون ببقايا أرض كانت لهم وستبقى، ومرة أخرى تراوغنا الحقيقة بشكل مفزع في هذا التيه العظيم، حيث ثمانمائة ألف من البشر، يقتلعون من أرضهم فقط لأنهم ألبانيون. فما معنى التطهير العرقي في القرن العشرين؟ ما يحدث يؤكد أن تاريخ الإنسان لم يبدأ بعد، فما زلنا في مرحلة ما قبل الإنسانية.
إن التراكم المعرفي منذ الحضارات الفرعونية والإغريقية وما بين النهرين، وصولاً إلى عصر النهضة الذي أفرز كوبرنيكوس ونيوتن، وما قدّمه المفكّرون العظام في تاريخ البشرية، من سقراط الباحث عن الحقيقة، وصولاً إلى فولتير، فيلسوف الحرية، كل هؤلاء قدموا الكثير للقرن العشرين، قدموا لنا مفاهيم الحرية والإخاء والحق والتسامح والعدل واحترام حقوق الإنسان، ماذا قدمنا نحن للأجيال القادمة من مفاهيم إنسانية؟ قدمنا "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صراع الحضارات" لهينتنغتون!! لقد قدّم العبيد الآلاف من القتلى في سبيل الحرية، وقدم الفرنسيون في ثورتهم الآلاف على المقصلة في سبيل الإخاء والمساواة، فما قدمته البشرية في عصور النهضة من تضحيات أتى بمفاهيم وقيم إنسانية ندين لهم بها، أما آلاف القتلى في فلسطين وكوسوفو وأمريكا اللاتينية وأفريقيا في القرن العشرين، فهم قرابين تقدم لذوي المصالح الاقتصادية ولمزيد من تراكم رأس المال دون أن يكون لتلك التضحيات من مردود يؤدي إلى مزيد من حقوق الإنسان. إن دوافع المصالح الاقتصادية ضيقة الأفق سيظل عالقاً كالدنس في القرن العشرين، وما لم ينفض البشر ثياب المصالح الشخصية الرثة فستظل أشباح القتلى تحوم في الليالي الموحشة. إن أكثر الوصمات عيباً أن يقدم الأبرياء على مذبح المصلحة الاقتصادية لتكريس المزيد من التبعية والهيمنة السياسية لدول لم يتعد تاريخها الخمسمائة عام.. وفي الأرض متسع للجميع.
فالقوانين والنظريات الفلكية التي أصبحت من بديهيات العلم الحديث كانت في عصر النهضة تهماً بالكفر تزجّ بأصحابها في غياهب السجون وإلى الموت حرقاً. وقد ظلت نظرية كوبرنيك في الفلك مجرد معادلات رياضية لا يفهمها رجال الدين حتى جاء جوردانو برونو وشرح مغزاها واستخلص منها بأن الكون لا نهائي، وبأن وراء عالمنا الفلكي عوالم بلا حصر. وزعزع بذلك الاعتقاد الديني بأن الأرض هي مركز الكون، وبأن الإنسان هو القصد من الخليقة. وقال بأن هنالك عوالم مأهولة غير عالمنا.
رجال الفكر والحكماء الذين نادوا بالتجديد الأخلاقي أو العلمي، لم يلق أغلبهم التكريم في أثناء حياتهم، بل دفعوا حياتهم أو حريتهم ثمناً لدعوتهم، وكان ذلك هو الثمن الذي دفعته البشرية في سبيل حرية الفكر والبحث العلمي، ولولا انتصار النظريات العلمية وصمود رجال الفكر في مواجهة الكنيسة لظلت أوروبا تنظر إلى الكتاب المقدس وكأنه الكتاب الجامع المانع للعلوم كافة، لا يفرط في شيء من علوم الأرض والسماء.
وارتقاء رجال العلم والفلسفة مراكز مرموقة في الدولة ظاهرة حديثة، فالعلماء، مثل باقي المجددين الأخلاقيين، كان عليهم أن يخوضوا معارك عنيفة ليعترف بهم، فقد نُفي بعضهم، وأحرق آخرون، وبمرور الوقت تبين لدى الدولة أن المحدثين سواء أكانوا علماء أم اجتماعيين يمكن أن يوظفوا كأداة للسلطة. وبفضل العلم، لدينا الآن النور الكهربائي والسينما، وأصبحت الحياة أسهل. وبفضل العلم، نستطيع نشر الأنباء والمعلومات، سواء أكانت حقيقية أم مضللة من خلال وسائل الإعلام، وكل حياتنا، بما فيها من تطور، تمَّ بفضل العلم. وهذا التطور الشاسع، تدعمه الدول حالياً، ولكنه في بداياته كان متعارضاً مع الدولة. ولم تكن المعارضة للعلوم في الماضي مستغربة، فلقد جاء المفكرون بآراء تناقض العُرْف السائد، فاتُهموا بالكفر، فعندما أعلن أناكساجوراس، في العصر الإغريقي، أن الشمس حجر أحمر ساخن، وأن القمر جزء من الأرض، اتهم بالكفر ونُفي من أثينا، لأن الشمس والقمر في مفهوم ذلك الزمان كانتا آلهتين جديرتين بالتوقير، وكانت السطوة على قوى الطبيعة التي منحها العلم، هي التي أدّت إلى قليل من التسامح مع العلماء، مع أن قدراتهم في البداية كانت منسوبة إلى السحر.
نحن بحاجة إلى مفاهيم وقيم جديدة توازي الدور الحاكم الذي تلعبه التكنولوجيا في تغيير عمليات الإنتاج، والتي تقوم على البحث والتجديد، والمحكومة بالرغبة في زيادة رأس المال وتقليل التكاليف.
والحق أقول: من يقدم الخبز والزعتر، لا يمكنه تقديم الرصاص. ومن يُحسن القراءة، فليتهجَّ السلام . . . الحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق